نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (15)

ولما اختص سبحانه بالملك ونفى عن شركائهم النفع ، أنتج ذلك قوله : { يا أيها الناس } أي كافة { أنتم } أي خاصة { الفقراء } أي لأنكم لاتساع معارفكم وسريان أفكاركم وانتشار عقولكم تكثر نوازعكم وتتفرق دواعيكم فيعظم احتياجكم لشدة ضعفكم وعجزكم عظماً يعد معه احتياج غيركم عدماً ، ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى { إلى الله } أي الذي له جميع الملك ؛ قال القشيري : والفقر على ضربين : فقر خلقة ، وفقر صفة ، فالأول عام فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبديه وينشيه ، وفي ثانية ليديمه ويبقيه ، وأما فقر الصفة فهو التجرد ، ففقر العوام التجرد من المال ، وفقر الخواص التجرد من الإعلال ، فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلولات .

ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي ، أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة التي بها وصف بما يذكر ، وهي الإحاطة بأوصاف الكمال فقال : { والله هو } أي وحده { الغني } أي الذي لا يتصور أن يحتاج لا إليكم ولا إلى عبادتكم ولا إلى شيء أصلاً . ولما كان الغنى من الخلق لا يسع غناه من يقصده ، وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه لخوف الفقر أو لغير ذلك من العوارض ، ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء فلا ينفك عن نوع ذم ، وكان الحمد كما قال الحرالي في شرح الأسماء : حسن الكلية بانتهاء كل أمر وجزء ، وبعض منها إلى غاية تمامه ، فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محموداً ، ولم يكن قائمه حميداً ، وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي ، لم يعجل شيئاً عن إناه وقدره ، وكان الذم استنقاضاً يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها ولا رأى كلها ، فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيداً متى أخذ مقتطعاً من كل ، والحمد لا يقع إلا في كل لم يخرج عنه شيء ، فلا حمد في بعض ولا ذم في كل ، ولا حمد إلا في كل ، ولذلك قال الغزالي : الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية .

وكان سبحانه قد أفاض نعمه على خلقه ، وأسبغها ظاهرة وباطنة ، وجعل لهم قدرة على تناولها . لا يعوق عنه إلا قدرته { وما كان عطاء ربك محظوراً } وكان لا ينقص ما عنده ، كان إعطاؤه حمداً ومنعه حمداً ، لأنه لا يكون مانعاً لغرض بل لحكمة تدق عن الأفكار فقال : { الحميد * } أي كل شيء بنعمته عنده والمستحق للحمد بذاته ،