نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ} (29)

ولما تقرر هذا ، تشوف السامع إلى معرفة العلماء فكان كأنه قيل : هم الذين يحافظون على كتاب الله علماً وعملاً ، فقيل : فما لهم ؟ فقال مؤكداً تكذيباً لمن يظن من الكفار وغيرهم من العصاة أنهم من الخاسرين بما ضيعوا من عاجل دنياهم : { إن الذين يتلون } أي يجددون التلاوة كل وقت مستمرين على ذلك محافظين عليه كلما نزل من القرآن شيء وبعد كمال نزوله حتى يكون ذلك ديدنهم وشأنهم بفهم وبغير فهم { كتاب الله } أي الذي لا ينبغي لعاقل أن يقبل على غيره لما له من صفات الجمال والجلال ، ولما ذكر السبب الذي لا سبب يعادله ، ذكر أحسن ما يربط به ، فقال دالاً على المداومة بالتعبير بالإقامة وعلى تحقيق الفعل بالتعبير بالماضي : { وأقاموا الصلاة } أي وهي الناهية عن الفحشاء والمنكر فناجوا الله فيها بكلامه . ولما ذكر الوصلة بينهم وبين الخالق ، ذكر إحسانهم إلى الخلائق ، فقال دالاً على إيقاع الفعل بالتعبير بالماضي ، وعلى الدوام بالسر والعلن لافتاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده ، لا بحول أحد غيره ولا غيره : { وأنفقوا مما رزقناهم } أي بحولنا وقوتنا لا بشيء من أمرهم في جميع ما يرضينا ، ودل على مواظبتهم على الإنفاق وإن أدى إلى نفاد المال بقوله : { سراً وعلانية } وعبر في الأول بالمضارع لأن إنزالها كان قبل التمام وتصريحاً بتكرار التلاوة تعبداً ودراسة لأن القرأن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :

" أشد تفلتا من الإبل في عقالها " أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وفي الثاني والثالث بالماضي حثاً على المبادرة إلى الفعل ، وقد تحصل من هذا أنه جعل لفعل القلب الذي هو الخشية دليلاً باللسان وآخر بالأركان وثالثاً بالأموال .

ولما أحلهم بالمحل الأعلى معرفاً أنهم أهل العلم الذين يخشون الله ، وكان العبد لا يجب له على سيده شيء ، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الثاني التي هي أم النعم والنتيجة العظمى المقصودة بالذات : { يرجون } أي في الدنيا والآخرة { تجارة } أي بما عملوا { لن تبور * } أي تكسد وتهلك بل هي باقية ، لأنها دفعت إلى من لا تضيع لديه الودائع وهي رائجة رابحة ، لكونه تام القدرة شامل العلم له الغنى المطلق .