نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَوۡ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمۡ خَيۡرٗا لَّأَسۡمَعَهُمۡۖ وَلَوۡ أَسۡمَعَهُمۡ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (23)

ولما كان ذلك ربما دعا السامع إلى أن يقول : ما للقادر لم{[34752]} يقبل بمن هذا شأنه إلى الخير ؟ أجاب بأنه جبلهم من أول الأمر - وله أن يفعل في مِلكه ومُلكه ما يريد - جبلة عريقة في الفساد ، وجعل{[34753]} جواهرهم شريرة كجوهر العقرب{[34754]} التي لا تقبل{[34755]} التأديب بوجه ولا تمر بشيء إلا لسبته ، فعلم سبحانه أنه لا خير فيهم فتركهم على ما علم منهم { ولو علم الله } أي الذي له الكمال كله { فيهم خيراً } أي قبولاً للخير { لأسمعهم } أي إسماعاً هو الإسماع ، وهو ما تعقبه الإجابة المستمرة .

و{[34756]} لما كان علم الله تعالى محيطاً ، وجب أن يعلم كل ما كان حاصلاً ، فكان عدم{[34757]} علمه بوجود الشيء من لوازم عدمه ، فلا جرم كان التقدير هنا : و{[34758]} لكنه لم يعلم فيهم خيراً ، بل علم أنه{[34759]} لا خير فيهم فلم يسمعهم هذا الإسماع { ولو أسمعهم } وهم على هذه الحالة من عدم القابلية للخير إسماعاً قسرهم{[34760]} فيه على الإجابة { لتولوا } أي بعد إجابتهم { وهم معرضون* } أي ثابت إعراضهم{[34761]} مرتدين على أعقابهم ، ولم يستمروا على إجابتهم لما جبلوا عليه من ملاءمة الشر ومباعدة الخير ، فلم يريدوا الإسلام وأهله بعد إقبالهم إلا وهناً ، وكما كان لأهل الردة الذين قتلوا مرتدين بعد أن كانوا دخلوا في الإسلام خوفاً من السيف ورغبة في المال{[34762]} وهو من وادي{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }{[34763]}[ الأنعام : 28 ] فإن{[34764]} علم الله تعالى أربعة أقسام : جملة الموجودات ، وجملة المعدومات ، وأن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً كيف يكون حاله ، وأن كل واحد من المعدومات{[34765]} لو كان موجوداً كيف{[34766]} يكون حاله ، والقسمان الأولان علم بالواقع ، والآخران علم بالقدر ، والآية من القسم الأخير ، ولعمري إنا دفعنا إلى زمان أغلب من فيه على قريب من هذا الأمر ، أجرأ الناس على الباطل ، وأثبتهم في المصاولة فيه ، وأوسعهم حبلاً في التوصيل إليه ، وأجبنهم عند الدعوة إلى الحق ، وأسرعهم نكوصاً عند الإقدام بعد جهد عليه ، وألكنهم عند الجدال له ، فصار{[34767]} ما كان مقدراً مفروضاً حاصلاً{[34768]} وموجوداً ، وكلمة { لو } هنا يحتمل أن تكون{[34769]} هي التي يعلق{[34770]} بها أمر على آخر هو بضده أولى فيكون المراد أن المعلق .

وهو الثاني - موجود دائماً مثل قول عمر رضي الله عنه : نعم العبد صهيب رضي الله عنه ! لو لم يخف الله لم يعصه{[34771]} ، فالمراد هنا على هذا أنهم إذا كانوا يتولون مع الإسماع والإجابة ، فتوليهم مع عدمهما أولى - نبه على ذلك الرازي{[34772]} ، ويحتمل أن تكون{[34773]} على بابها من أن الجزءين بعدها منفيان ، وانتفاء التولي إنما يكون خيراً إذا نشأ عن الإسماع المترتب على علم الخير فيهم ، وأما عدمه لعدم إسماعهم الإسماع الموصوف لأنه لا خير فيهم فليس{[34774]} من الخير في شيء بل هو شر محض ، التولي المنفي عنهم ليس هو الموجود منهم ، بل هو الناشىء عن الإسماع{[34775]} الموصوف فلا يناقض ادعاؤه تحقق عنادهم وعدم انقيادهم ، وتحقيقه أن المنفي إنما هو زيادة التولي الناشئة عن الإسماع ، فالمعنى : ولو أسمعهم لزادوا إعراضاً ، فالمنفي في هذا السياق تلك الزيادة - والله الموفق .


[34752]:في ظ: أن.
[34753]:من ظ، وفي الأصل: جبله.
[34754]:من ظ، وفي الأصل: الذي لا يقبل.
[34755]:من ظ، وفي الأصل: الذي لا يقبل.
[34756]:زيد من ظ.
[34757]:من ظ، وفي الأصل: علم.
[34758]:زيد من ظ.
[34759]:في ظ: أن.
[34760]:من ظ، وفي الأصل: ضرهم.
[34761]:زيد من ظ.
[34762]:زيد من ظ.
[34763]:سورة 6 آية 28.
[34764]:في ظ: فإنه.
[34765]:زيد من ظ.
[34766]:من ظ، وفي الأصل: فكيف.
[34767]:من ظ، وفي الأصل: وصار
[34768]:في ظ: حاصل.
[34769]:في الأصل وظ: يكون.
[34770]:في ظ: تعلق.
[34771]:من ظ، وفي الأصل: لم يقصده.
[34772]:في الأصلين: الرضى، والصواب ما أثبتناه فإن البحث بتمامه قد ساقه أبو حيان في بحره منسوبا إلى فخر الرازي.
[34773]:من ظ، وفي الأصل: يكون.
[34774]:زيد من ظ.
[34775]:من ظ، وفي الأصل: الاتباع.