التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

ضغثا : حزمة من القش .

لا تحنث : لئلا تحنث بيمينك أو قسمك .

التلقينات المنطوية في قصة أيوب عليه السلام :

ولقد احتوت الآيات عظة وعبرة وتلقينات بليغة فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في ظروف الدعوة كما فيها تلقين مستمر المدى في كل ظرف .

فإذا كان أناس من خلق الله كفروا وتكبروا وشاقوا واعتزوا بالمال والولد ، فهناك عباد الله مخلصون كل الإخلاص له في حالتي قوتهم وضعفهم وفقرهم وغناهم وصحتهم ومرضهم مثل أيوب الذي كان واسع الثروة متمتعا برغد الحياة فشكر ولم تبطره النعمة ، ولما ابتلي بالمحن الشديدة صبر ولم تسخطه النقمة ، فاستحق المزيد من منح الله وعنايته وتداركه بالفرج واليسر بعد الضيق والعسر ، وإن من واجب المسلمين التمسك بالله والإخلاص له والشكر له في حال اليسر والصبر في حال العسر .

وفي تحلّة اليمين التي أذن الله بها لأيوب حتى لا يحنث أو يضرب زوجته المخلصة دليل على أن الله يسمح لعباده أن يتوسلوا بوسيلة مشروعة تنقذهم مما قد يواجهونه من محرجات ومشاكل ويوقعهم في الإثم والضرر والخطر . وهذه النقطة الأخيرة صارت مبدأ من مبادئ القرآن المقررة المتكررة بأساليب مختلفة كما يفهم من آية البقرة : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم173 } وآيات سورة المائدة هذه : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين87 وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون88 لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون89 } وآيات سورة التحريم هذه : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم1 قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم2 } وقد روي أنه رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر شاب وجد على أمة يواقعها فقال لهم : اضربوه حده فقالوا : يا رسول الله إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مئة قتلته فقال : فخذوا عثكالا فيه مئة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة وخلوا سبيله .

تعليق على توسّع بعض الفقهاء في تأويل تحلّة اليمين التي يسّرها الله لأيوب

ولقد توسع بعضهم في الحكمة أو الرخصة الواردة في موضوع تحلة يمين أيوب عليه السلام ، وحاولوا أن يتخذوها دليلا على ما يسمونه بالحيل الشرعية على الإطلاق ، وأخذوا يضعون الحيل الشنيعة البشعة للتحلل من كثير من الواجبات والالتزامات الشرعية من زكاة وربا وطلاق وعتاق وزنا وأيمان موجبة للعقود وأعمال متنوعة أخرى . وهناك فصول في كتب فقهية في ذلك . وسمعنا كثيرا من ذلك ورأيناه بأنفسنا يقع بفتوى بعض المشايخ ، حيث كانوا يفتون بوضع مبلغ الزكاة الواجبة في زنبيل قمح أو أرز ويعطونه لفقير ويقولون له هذا وما فيه زكاة مالنا فيأخذه ثم ينبري ابن الغني أو أخوه أو عامله فيشتري الزنبيل بما فيه بما يوازي ثمن القمح أو الأرز . وكثير من الذين يمارسون الربا يعمدون إلى حيلة مماثلة . وأدنى إمعان وتدبر يكفي لإبراز ما في هذا التوسع من وهن سند وضعف منطق وجرأة على الله وقرآنه وحكمته وحدوده فأيوب عليه السلام قد أقسم على ضرب امرأته . وكان قسمه قد وقع منه في حال اضطراب وألم وفي حق شخص مخلص بريء . والأيمان على ارتكاب الإثم والضرر غير جائزة أصلا كما تلهمه روح آيات القرآن مثل آيات سورة البقرة هذه : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم225 } ، وآية سورة النور هذه : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربة والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم22 } وعدم تنفيذها واجب محتم . وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على اجتناب زوجاته فعاتبه الله وأمره بالتحلل من يمينه على ما جاء في آيات سورة التحريم التي أوردناها قبل وقد أقسم بعض أصحاب رسول الله على مجانبة اللذائذ المباحة فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالتحلل من يمينهم على ما جاء في آيات سورة المائدة التي أوردناها قبل أيضا . فالقياس لا يمكن أن يطرد إلا في المواقف المماثلة والإطلاق فيه يعني تعطيل شرائع الله وحدوده وحكمته في هذه الشرائع والحدود . وتصوير الله في صورة المتناقض العابث جل عن ذلك وتعالى . هذا عدا ما في ذلك من أضرار لا تقف عند حد في مصالح الناس وصلاتهم فيما بينهم وفي سلب ثقتهم في بعضهم ومن عدوان على حقوقهم وأموالهم وأعراضهم .

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات التي تذكر حيلة بني إسرائيل على شريعة السبت في سورة الأعراف وهي الآيات [ 163-166 ] حديثا عن أبي هريرة وصف بأن رجاله ثقاة مشهورون وإسناده جيد قال : ( قال رسول صلى الله عليه وسلم : لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) .

وفي الفصل الذي عقده ابن القيم في الجزء الثالث من كتابه " أعلام الموقعين " على التنديد بالتحايل على أحكام الله أحاديث أخرى . منها حديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله عليهم بلاء ، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ) .

والشاهد من الحديث هو التبايع بالعينة . وقد روى ابن القيم عن ابن عباس توضيحا لذلك في رواية جاء فيها : ( باع رجل من رجل حريرة بمائة ، ثم اشتراها بخمسين ، فسأل ابن عباس عن ذلك فقال : دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة ، وهذا مما حرم الله ورسوله وإن الله لا يخدع ) . ومنها حديث رواه ابن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع ) . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته جاء فيه : ( إنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى ، فقالت لها أم ولد زيد : إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة نسيئة واشتريته بستمائة نقدا . فقالت : أبلغي زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب ، بئسما شريت وبئسما اشتريت ) . وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة . ولا مانع من صحتها . على أن هناك حديثا رواه البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوها ) . وفي هذا تحريم نبوي للحيل في إبطال شرائع الله تعالى .