{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 ) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( 8 ) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( 9 ) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 ) } ( 7 – 10 ) .
{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } الخ
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة . والمستلهم من روحها وفحواها أنها موجهة إلى المؤمنين في الدرجة الأولى ثم إلى السامعين عامة . وقد تضمنت :
( 1 ) دعوة لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق من المال الذي جعلهم الله خلفاء ووكلاء عليه ، فالذين يفعلون ذلك منهم لهم أجر من الله عظيم .
( 2 ) وسؤالا استنكاريا على سبيل الحث والعتاب عما يمنعهم عن الإيمان بالله ، ورسوله يدعوهم إلى ذلك ، وهو قد أخذ قبل ذلك ميثاقا به إن كانوا حينما أعطوا هذا الميثاق مؤمنين حقا .
( 3 ) وتنبيها على أن الله تعالى إنما ينزل على عبده النبي آياته ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم ، وأنه إنما يفعل ذلك ؛ لأنه بهم رؤوف رحيم .
( 4 ) وسؤالا استنكاريا آخر على سبيل الحث والعتاب أيضا عما يمنعهم عن إنفاق أموالهم في سبيل الله ، في حين أن كل ما في السماوات والأرض هو ملك لله تعالى .
( 5 ) وتقريرا على سبيل الحث والبيان بأن هناك فرقا عظيما بين الذين أنفقوا أموالهم وقاتلوا قبل الفتح وبين الذين فعلوا ذلك بعده ، وبأن الأولين أعظم درجة وأجرا عند الله مع تقرير كون الآخرين أيضا موعودين من الله كالأولين بالأجر والحسنى على كل حال ، وهو الذي يعلم علم كل ما يفعله الناس ويقدمونه بين يديهم .
ويتبادر لنا أن جملة : { وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } هي في مقامها في معنى ( وما لكم لا تثقون ولا تتيقنون بما يأمركم الله ، وتطيعونه فيه ) وليست تنديدا بعدم إيمانكم مبدئيا بالله ولا دعوة لهم إلى ذلك ؛ لأن الخطاب في الجملة والآيات عامة لأناس مؤمنين بالله ورسوله مبدئيا . فيكون العتاب الذي انطوى في الجملة هو بسبب عدم تحقق ما يوجبه الإيمان فيهم من ثقة ويقين وطاعة . وجملة : { إن كنتم مؤمنين } تدعم ذلك . كما تدعمه جملة : { وقد أخذ ميثاقكم } من حيث إنها تعني ( أنكم بإيمانكم الأصلي بالله ورسوله قد أعطيتم ميثاقا بالتحقيق بما يوجبه هذا الإيمان ) . وبهذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا يزول ما قد يورد من إشكال عليه صيغة الكلام . والله تعالى أعلم .
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات إلا ما رواه البغوي عن الكلبي من أن الآية ( -10 ) نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ؛ لأنه أول من أسلم ، وأول من أنفق ماله في سبيل الله ، وذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقد روى المفسر حديثا بطرقه عن ابن عمر قال : ( كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ، فنزل عليه جبريل فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح . قال : فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول لك : أراض أنت في فقرك أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أأسخط على ربي . إني عن ربي راض ، إني عن ربي راض ) وفحوى الروايات لا يتضمن مناسبة خاصة لنزول الآية كما هو واضح . والحديث بعد لم يرد في الصحاح .
ومع عظم احترامنا للصديق رضي الله عنه وتضحياته واعتقادنا بأنه أهل لكل ثناء ورضاء ربانيين ، فالذي نستلهمه من روح الآيات وفحواها أن ما احتوته الآية المذكورة يشمل أكثر من شخص واحد ، وأنها تعني الطبقة السابقة إلى الإيمان والبذل من مهاجرين وأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة هذه : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } ( 100 ) . ونرجح أنها نزلت في مناسبة موقف مرجح من المواقف التي كان يقفها بعض المسلمين المستجدين وخاصة بين مرضى القلوب ، ويظهرون فيها ترددا في البذل في سبيل الله وتباطؤا في الجهاد ، وتقصيرا في الإخلاص والطاعة والتفاني الواجب عليهم نحو الله ورسوله مما حكته آيات كثيرة في سور عديدة سابقة مثل آيات سورة البقرة ( 264 – 267 ) والنساء : ( 71 – 87 و 90 – 100 و 114 – 115 و 140 – 147 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } وآيات من هذه السورة تأتي بعد فأوحى الله تعالى فيه إلى نبيه بهذه الآيات لتحتوي ما احتوته من إنكار وتذكير وتنويه وعتاب وحث وتنديد وتنبيه بعد المقدمة السابقة التي احتوت ما احتوته من بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومطلق تصرفه في الكون بما في ذلك نفوس الناس وأموالهم .
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أنس قال : ( كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ، فبلغنا أن ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ) ( 1 ){[2111]} . حيث ينطوي في هذا الحديث صورة ما من الصور التي شاءت حكمة التنزيل المقايسة بها بين الإنفاق والقتال قبل الفتح وبعده وتأييده لما قلناه . مع التنبيه على أننا ننزه خالد بن الوليد رضي الله عنه عن صفة النفاق ومرض القلب . وكل ما هناك أنه قد أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة ، وأن الموقف المروي عنه إن صح فإنه نتيجة جدته في الإسلام وحسب ( 2 ){[2112]} . ولقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مسلما باختياره وعن قناعة ( 1 ){[2113]} . ورسخ في الإسلام مع الأيام حتى صار من أقوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا وإخلاصا وجهادا .
ومهما يكن من أمر ، فإن الآيات احتوت صورا من صور السيرة النبوية في العهد المدني ولو لم تكن بارزة الخطوط ، وإن أسلوبها ومضمونها وروحها معا تلهم أنها استهدفت تقرير تقصير المخاطبين وترددهم في الإخلاص التام في الإيمان والطاعة والاستجابة والإنفاق ، وقصد التنديد بهم ، والتنبيه على أنهم لا عذر لهم في ذلك ، ولا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم يتلو عليهم آيات الله ويبلغهم وحيه . وقد احتوت أسلوبا من أساليب معالجة الموقف وتهذيب أخلاق المسلمين وتنقيتها وتطهيرها ودعوة قوية إلى الإنفاق والجهاد وتصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفناء فيه . كما احتوت في الوقت نفسه تنويها بالرعيل الأول السابقين وما كان منهم من تفان وإخلاص وتضحيات وبذل في أصعب الظروف وأخطر المواقف هو بمثابة تسجيل لذلك وأسباب لما قرره الله تعالى من رضائه عنهم في الآية ( 100 ) من سورة التوبة التي سبقت الإشارة إليها . ولقد احتوت الآيات التي أوردنا أرقامها قبل قليل وغيرها مثل آيات سورة البقرة ( 204 – 206 ) وآل عمران ( 138 – 168 ) والنور ( 47 – 45 ) والمجادلة ( 8 – 9 ) والصف ( 2 – 3 ) صورا أوضح يمكن أن تتضح بها تلك الصور . وجميعها قد مر تفسيرها وشرحها . وفي سورة التوبة آيات أخرى فيها مثل هذه الصور بل آيات فيها تصنيف رائع لواقع الجماعات الإسلامية في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما سوف نشرحه في مناسبتها .
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره من المفسرين ( 1 ){[2114]} عن التابعين من أهل التأويل في جملة : { وقد أخذ ميثاقكم } حيث قال بعضهم : إنها تعني العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم ، والذي ذكره في آية سورة الأعراف هذه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } ( 172 ) . وحيث قال بعضهم : إنها تعني ما أودع الله فيهم من عقول ونصب لهم من أدلة فصار كل عاقل راشد بمثابة معاهدة الله على الإيمان به بما وهبه من عقل ورشد ، ومن هذه الأقوال ما ساقه بعض المفسرين قولا لهم ( 1 ){[2115]} .
ويتبادر لنا أن الأوجه أن تكون كما ذكرنا قبل في صدد تذكيرهم بمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام ؛ حيث يكونون بذلك قد أعطوا الله عز وجل ميثاقا على الإيمان والإخلاص والتضحية والبذل والجهاد والطاعة في المعروف . والله أعلم .
ومع أن هناك من قال : إن الفتح المذكور في الآية ( 10 ) هو فتح الحديبية – وقد سماه الله فتحا في سورة الفتح – فإن معظم أهل التأويل والمفسرين متفقون على أنه فتح مكة ( 2 ){[2116]} . وحديث الإمام أحمد ثم حديث أبي سعيد اللذان نقلناهما عن ابن كثير مما يؤيد ذلك ؛ لأن خالد بن الوليد كان في يوم الحديبية مشركا محاربا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين . وهذا فضلا عن أن هناك وقائع عديدة بعد الحديبية قاتل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون وبذلوا جهودا ونفقات عظيمة في سبيلها ، كما أن الزحف على مكة اقتضى حشدا كبيرا وجهدا بالغا ونفقات جسيمة ( 3 ){[2117]} .
هذا ، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى كما هو المتبادر يثير في قلوب المسلمين في كل وقت الإخلاص واليقين . ويحفزهم إلى التضحية بالمال والنفس والتسابق في ذلك . وبخاصة في الأزمات والشدائد التي تكون مثل هذه التضحية فيها أشد لزاما . ولقد شاءت حكمة التنزيل مع ذلك أن تنوه بالذين يفعلون ذلك في غير الأزمات والشدائد أيضا ؛ حيث ينطوي في هذا تلقين بليغ بوجوب البذل والتضحية في كل وقت ومال واستحقاق من يفعل ذلك الحسنى من الله عز وجل .
وجملة : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } رائعة المدى في هتافها بأصحاب الأموال بأنهم ليسوا إلا وكلاء لله تعالى وخلفاءه فيها ، وبأن عليهم أن يطيعوا الله مالكها الأصلي فينفقوا في سبيله على كل ما أمرهم الإنفاق عليه من نصرة دينه ومساعدة المحتاجين من خلقه . وهو هنا قد يجعل ولي أمر المؤمنين والمحتاجين من المسلمين أقوى صوتا في مطالبة أصحاب الأموال بالإنفاق في سبيل الله والمحتاجين .
استطراد إلى خبر فتح مكة وما جرى
في سياقه من أحداث وما كان له من أثر
والمناسبة سانحة للاستطراد إلى خبر فتح مكة فنقول : إن هذا الفتح الذي تم بعد سنين من صلح الحديبية على جلالة شأنه وخطورته لم يرد فيه في القرآن إلا الإشارة الخاطفة التي تقرر أنه كان واقعا في الآية ( 10 ) من هذه السورة ومثلها وفي مداها في سورة النصر . ثم إشارة تدل على أن مكة قد دخلت في حوزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وسلطانهم في آية سورة التوبة هذه : { وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } ( 3 ) .
وهذه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا . . . . . . . . . . . . } ( 28 ) . وكل ما يرد للبال في هذا الصدد أن حكمة التنزيل لم تر في هذا الفتح من مواضع العبرة والعظة والتعليم والتسكين والتنديد والتنويه ما يستلزم قرآنا ، وهي المواضع التي استهدفتها الفصول التي أشير فيها إلى وقائع الجهاد والفتح على ما شرحناه في سياق وقائع بدر وأحد والأحزاب والحديبية وبني قريظة وبني النضير في سورة الأنفال وآل عمران والأحزاب والفتح والحشر .
وملخص ما ذكرته الروايات عن هذا الفتح ( 1 ){[2118]} ، أنه قد تم في الثلث الأخير من شهر رمضان من السنة الهجرية الثامنة ، وأن السبب المباشر له نقض قبيلة بني بكر التي كانت داخلة في عهد قريش في ميثاق صلح الحديبية وغارتها على قبيلة بني خزاعة التي كانت داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وقتلها بعض أفرادها بمساعدة وتشجيع بعض القرشيين . وقد ذهب وفد خزاعي إلى المدينة ، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وقع عليهم وناشدوه النصرة فوعدهم خيرا ، وأدركت قريش أن عملها نقض للعهد ، فسارع أبو سفيان إلى المدينة ليوثق العهد . فكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرد عليه فطلب من أبي بكر التوسط فأبى ، ثم من عمر فأبى ، ثم أتى علي بن أبي طالب وفاطمة فأبيا ، فجاء إلى باب المسجد يائسا وهتف ( أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ) ثم عاد ، ولما تم ما أراده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حشد وإعداد ، زحف على رأس جيش بلغت عدته نحو عشرة آلاف من مسلمي المدينة والقبائل مثل أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم وفزارة . وكان الزحف لعشر ليال خلون من رمضان .
ولما أعلم المكيون بمسيره استنفروا حلفاءهم من هوازن وثقيف وبني بكر والأحابيش . ووصل زحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة قبل أن يصل القسم الأقوى من الحلفاء أي هوازن وثقيف . فرأى أهل مكة أن لا قبل لهم بما جاءهم واستسلموا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكمه ولم يقع إلا اشتباك جزئي في ناحية من أنحاء مكة مع فريق من القوة الزاحفة وأسفر عن بعض القتلى ، ولما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أرسل أمرا بالكف فكان ، ولقد خرج أبو سفيان قبيل الإسلام ليتحسس الأخبار فلقي عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس ، وكان قد أسلم وظل في مكة يكتم إسلامه بموافقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله : ما وراءك ؟ فقال له : هذا رسول الله في عشرة آلاف فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك . ثم قال له : أنت في جواري وأردفه وراءه ، وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم على يديه . وكرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر مناديا ينادي : ( من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ) كما أمر من ينادي : ( من دخل الحرم فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهو آمن ) . ولقد رأى أبو سفيان ما لا قبل له به وما لم يخطر بباله حتى لقد قال للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما . فأجابه : ويحك هي نبوة الله ونصره . وكان سعد بن عبادة أحد زعماء الخزرج من قواد بعض الأجنحة وحملة الرايات ، فلما دخل مكة أخذ يهتف ( اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ) فأخبر عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهتافه وقال له : ما نأمن أن تكون له في قريش صولة . فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا أن يدركه فيأخذ الراية منه فيكون هو الذي يدخل بها . ولما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة عمد توا إلى الكعبة فطهرها من الأصنام ، وكان في جوفها وحولها نحو 360 صنما ، ووجد على جدرانها صورا لإبراهيم وهو يستقسم الأزلام ، وصورا لعيسى والملائكة فأمر بطمسها . وفي ثاني يوم احتشد الناس حول الكعبة فخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم خطبة بدأها بقوله : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) . ثم قال : ( ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، يا معشر قريش : إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء . الناس من آدم وآدم من تراب . { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ( الحجرات : 13 ) يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم . فأجابوا : خير أخ كريم وابن أخ كريم فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
وأخذ أهل مكة يقبلون بعد ذلك على مبايعة النبي ويعلنون إسلامهم . وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد لهدم العزى وعمرو بن العاص لهدم سواع وسعيد ابن زيد لهدم مناة في أطراف مكة . وعدا خزاعي على مشرك من هذيل في أثناء ذلك ، فقتله فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا فقال : ( أيها الناس ، إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، ألا وإنها لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد من بعدي ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا . ثم قال : يا معشر خزاعة . ارفعوا أيديكم عن القتل ، لقد قتلتم قتيلا ، ولسوف أؤدي ديته ، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاءوا فدم قاتله ، وإن شاءوا فعقله ) .
ولقد كان تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وموافقة في أثناء الفتح رائعة عظيمة استهدف بها تأنيس الناس بالإسلام وتوطيد كلمة الله وحرماته مع توطيد الأخوة والمساواة الإسلامية والإنسانية معا .
ولقد كان من بركات صلح الحديبية أن ازدادت قوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين واتسعت دائرة الإسلام ، وتمكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خضد شوكة اليهود في مستعمراتهم خارج المدينة . ولقد كان ضعف قريش يزداد موازيا لازدياد قوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتساع دائرة الإسلام ، فكان هذا الزحف العظيم الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بعد سنتين من ذلك الصلح ، بعد أن زحفت قريش وحلفاؤها في السنة الخامسة على المدينة بزحف مماثل ، فكان ما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الأحزاب التي أشير إليها في سورة الأحزاب .
ولقد انهدم بفتح مكة السد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام وبين سائر العرب فتدفق سيل وفودهم بعده على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب . ودخل معظم اليمن في دين الله وسلطانه بالإضافة إلى معظم شمال الجزيرة وشرقها وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس ثلاثين ألفا نحو مشارف الشام ، فيما سمي في تاريخ السيرة بغزوة تبوك ، فوطد هيبة السلطان الإسلامي في هذه المشارف ، وأخذ الإسلام ينتشر بين قبائلها وكانت هذه الغزوة من خطوات حركة الفتح الكبرى التي تمت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولقد أخذ الأنصار يتساءلون عما إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وقد نصره الله على قريش ويسر له فتح مكة أم القرى – يعود ثانية إلى المدينة أم يبقى في مكة ، ويتخذها مقرا له ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجمع زعمائهم وقال لهم : ( معاذ الله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم ) حيث سجل بهذا الموقف تقديره العظيم لما كان من نصرهم له وإيوائهم لأصحابه المهاجرين ، ولما كان للهجرة إلى المدينة من بركات عظمى كان هذا الفتح من بعضها .
وقد عين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتى من فتيان مكة اسمه عتاب بن أسيد واليا . وكان في اختياره دون المسنين من رجال مكة الحكمة والسداد ، وكان من بني أمية فأراد مع ذلك أن يتألف قلوبهم ، ومن طريف ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين لهذا الوالي درهما كل يوم لنفقته فقام خطيبا وقال : ( يا أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم ، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد ) . ويبدو أن الفتى لم يكن من الأغنياء . ولعل هذا من أسباب اختياره .
ومما روته الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل أشخاص ، ولو كانوا معلقين بستار الكعبة ؛ لما كان من شدة كفرهم وأذاهم . منهم عبد الله بن خطل الذي عدا على مولى له فقتله بدون حق ثم ارتد والتحق بالمشركين . والحويرث بن نقيذ الذي كان اعتدى على بنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما هاجرتا من مكة للالتحاق بأبيهما ، فتحسس راحلتيهما وأسقطهما إلى الأرض .
ومقيس بن صبابة الذي قتل أنصاريا وارتد ولحق بالمشركين .
وعبد الله بن سعد أخا عثمان بن عفان في الرضاعة الذي كان كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فافترى على الله ورسوله وارتد ولحق بالمشركين وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل اللذان كانا شديدي الخصومة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة . وقد نفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالثلاثة الأولين . وشفع عثمان بن عفان بأخيه لدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : إنه ندم وعاد إلى الإسلام فقبل شفاعته ( 1 ){[2119]} . وفر صفوان وعكرمة من مكة فلم يظفر بهما واستشفع فيهما بعض المسلمين على أن يأتيا ويسلما ، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة فجاءا وأسلما .
وروت الروايات فيما روت أن رجلين من بني مخزوم استجارا بأم هانئ عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأراد علي أن يقتلهما فأغلقت الباب ، ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته . فقال : قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ، فجاء الرجلان وأسلما .
وفي الكتب الخمسة أحاديث ورد فيها شيء من ما روته الروايات من الأحداث والصور . في بعضها مغايرة لما جاء في الروايات وفي بعضها من صور أخرى . من ذلك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عباس قال : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمة المدينة فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا ) ( 1 ){[2120]} . وحديث رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال : ( لما سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح وبلغ قريشا خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران ، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان : ما هذه ؟ لكأنها نيران عرفة ، فقال بديل بن ورقاء : هي نيران بني عمرو فقال أبو سفيان : بنو عمرو أقل من ذلك ، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأدركوهم ، فأخذوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم أبو سفيان ( 2 ){[2121]} . فلما سار قال للعباس : احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين ، فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر كتيبة بعد كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال : يا عباس من هذه ؟ قال : هذه غفار قال : مالي ولغفار مرت ثم مرت جهينة فقال : مثل ذلك ثم مرت سعد بن هزيم فقال مثل ذلك ، ومرت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال : من هذه يا عباس ؟ قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية . فقال سعد : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة التي تستحل الكعبة فقال أبو سفيان : يا عباس هذا يوم الذمار . ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الزبير بن العوام ، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي سفيان قال : ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة ؟ قال : ما قال ؟ قال : كذا وكذا فقال : كذب سعد . ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة . وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تركز رايته بالحجون . وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء . ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كدا فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان حبيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهري ) ( 3 ){[2122]} . وحديث رواه البخاري عن أسامة أنه قال يوم الفتح : ( يا رسول الله أين تنزل غدا ؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وهل ترك لنا عقيل من منزل ؟ ثم قال : لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث الكافر المؤمن . قيل للزهري : ومن ورث أبا طالب ؟ قال : ورثه عقيل وطالب ) ( 1 ){[2123]} .
وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال : ( كنا مع رسول الله يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى ، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى ، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال : يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فدعوتهم ، فجاءوا يهرولون فقال : يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش قالوا : نعم . قال : انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال : موعدكم الصفا . فما أشرف لهم أحد يومئذ إلا أناموه . وصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفا ، فجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا ، فجاء أبو سفيان فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبيدت خضراء قريش . لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . فقالت الأنصار : أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته . ونزل الوحي على رسول الله . قال : قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته ، ألا فما اسمي إذا ؟ أنا محمد عبد الله ورسوله . هاجرت إلى الله وإليكم ، فالمحيا محياكم والممات مماتكم . قالوا : والله ما قلنا ذلك إلا ضنا بالله ورسوله قال : فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم ) ( 2 ){[2124]} . وحديث رواه الشيخان عن عبد الله قال : ( دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيده ) ( 3 ){[2125]} . وحديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة ، فأمر بها فأخرجت وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( قاتلهم الله . لقد علموا ما استقسما بها قط . ثم دخل البيت فكبر في نواحيه وخرج ولم يصل فيه ) ( 4 ){[2126]} . وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد ، ومعه بلال وعثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد ، فأمره أن يأتي بمفتاح البيت ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أسامة وبلال وعثمان ، فمكث فيها نهارا طويلا ، ثم خرج فاستبق الناس ، فكان ابن عمر أول من دخل ، فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه قال : ونسيت أن أسأله كم صلى ) ( 1 ){[2127]} . وحديث رواه الترمذي بسند صحيح عن الحارث بن مالك قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم فتح مكة : لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة ) ( 2 ){[2128]} . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي شريح العدوي جاء فيه : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام في الغد من يوم الفتح فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار . وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب ) ( 3 ){[2129]} .