التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{أَحۡيَآءٗ وَأَمۡوَٰتٗا} (26)

{ ألم نهلك الأولين( 16 ) ثم نتبعهم الآخرين( 17 ) كذلك نفعل بالمجرمين( 18 ) ويل يومئذ للمكذبين( 19 ) ألم نخلقكم من ماء مهين( 20 ) فجعلناه في قرار مكين1( 21 ) إلى قدر معلوم2( 22 ) فقدرنا3 فنعم القادرون( 23 ) ويل يومئذ للمكذبين( 24 ) ألم نجعل الأرض كفاتا4( 25 ) أحياء وأمواتا( 26 ) وجعلنا فيها رواسي شامخات5 وأسقيناكم ماء فراتا6( 27 ) ويل يومئذ للمكذبين( 28 ) } [ 16-28 ] .

والآيات متصلة بالسياق السابق أيضا ، وبسبيل التدليل على قدرة الله على تحقيق ما يوعد به الناس من البعث والحساب والجزاء وهي ثلاثة مقاطع كل منها ينتهي بإنذار المكذبين بهول ذلك اليوم ، وهذا التكرار مستمر في جميع مقاطع السورة مما جعل لها خصوصية نظمية ومما ينطوي فيه تشديد في الإنذار والتقريع كما هو المتبادر .

وفي كل مقطع حجة مقتطعة مما يعرفه السامعون من حقائق لا سبيل للمماراة فيها من قدرة الله وعظمة كونه ودقة نواميسه فيه حيث تستحكم الحجة فيهم .

وقد جاءت المقاطع بأسلوب السؤال الاستنكاري الذي ينطوي فيه تقرير معرفة السامعين لجوابه الصحيح وهو التسليم بقدرة الله وصدق الحجة ، فهم يعرفون أن الله عز وجل قد أهلك الأولين وأتبعهم بمن بعدهم ، وأن هذه عادته في المجرمين ، وهم يعرفون أن الله عز وجل خلقهم من ماء مهين قدر له وقتا معلوما في الرحم ، وأنه هو الذي سواهم على أحسن تقدير وحساب وتكوين ، وهم يعرفون أن الله عز وجل جعل الأرض نطاقا واسعا للأحياء والأموات ، وجعل فيها الرواسي الشامخات ، وأجرى فيها المياه العذبة التي يستقون منها والتي فيها قوام حياتهم . وفي كل هذا الدليل القاطع على قدرته على بعثهم بعد الموت للحساب .

وفي القرآن آيات جاء فيها اعترافهم صريحا بكل هذا وهو الذي سوغ لنا تأويل الآيات بما أولناه بها . ففي سورة العنكبوت هذه الآية : { وعاد وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين38 } حيث ينطوي فيها معرفتهم بنكال الأقوام السابقين بسبب اتباعهم الشيطان وعدم استجابتهم إلى رسلهم ، ومن هذا الباب آيات سورة الصافات هذه : { وإن لوطا لمن المرسلين133 إذ نجيناه وأهله أجمعين134 إلا عجوزا في الغابرين135 ثم دمرنا الآخرين136 وإنكم لتمرون عليهم مصبحين137 وبالليل أفلا تعقلون138 ) . وفي سورة الزخرف هذه الآيات : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم9 الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون10 والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون11 والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون12 ) . وهذه الآية { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون87 } وفي سورة الواقعة هذه الآيات : { أفرأيتم ما تمنون58 أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون59 نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين60 على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون61 ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون62 } .

ومع أن أسلوب الآيات عام للسامعين على اختلافهم فالمتبادر من روحها أنها موجهة إلى الكفار والمكذبين على سبيل الإنذار والتقريع والإفحام والدعوة إلى الارعواء . وفي الآيات التالية لها دلالة صريحة على ذلك .

تنبيه إلى أن الدعوة قائمة على الإقناع

وفي هذه الآيات وأمثالها الكثيرة مما سبق ومما سيأتي ظاهرة قرآنية جليلة ، وهي أن الدعوة كانت تقوم على الإقناع والجدل المنطقي الذي فيه الحجة الدامغة والإفحام ، وعلى لفت النظر إلى وجود الله وقدرته الشاملة وحكمته البالغة بما في ملكوت السماوات والأرض ، وبما في تكوين وقوى الناس أنفسهم الذين يوجه إليهم الخطاب من آيات ومشاهد باهرة قائمة ، مما يعترفون به ومما لا يتحمل مماراة ولا يحتاج إلى براهين خارقة ، واستحقاق الله وحده من أجل ذلك للخضوع والعبودية والاتجاه .