معاني القرآن للفراء - الفراء  
{وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا} (59)

وقولهُ : { لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً 59 } يقول : لإهلاكنا إيَّاهم ( موعداً ) أجلا وقرأ عاصم ( لمَهْلَكهِمْ ) فتح الميم واللام ويجوز ( لمهِلِكهم ) بكسر اللام تبنيه على هَلَك يَهْلِك . فمن أراد الاسم مّما يُفْعَل منه مكسورَ العين كسر مفعلا .

ومن أراد المصدر فتح العين . مثل المضرِب والمضرَب والمَدِبّ والمَدَبّ والمفِرّ والمَفَرّ فإذا كان يفعل مفتوح العين آثرت العرب فتحها في مفعل ، اسما كان أو مصدراً . وربما كسروا العين في مفعل إذا أرادوا به الاسم . منهم من قال { مَجْمِعَ البَحْرَيْنِ } وهو القياس وإن كان قليلاَ .

فإذا كان يفعل مضموم العين مثل يدخل ويخرج آثرت العرب في الاسم منه والمصدرِ فتح العين ؛ إلا أحرفاً من الأسماء ألزموها كسر العين في مفعل . من ذلكَ المسجِد والمطلِع والمغرِب والمشرِق والمسقِط والمفرِق والمجزِر والمسكِن والمَرْفِق من رَفَق يَرْفُق والمنسِك من نَسَك يَنْسُك ، والمنبت .

فجعلوا الكسر علامة للاسم ، والفتح علامة للمصدر . وربما فتحه بعض العرب ( في الاسم ) وقد قرئ مسكِن ومسكَن . وقد سمعنا المسجِد والمسجَد وهم يريدون الاسم ، والمطلَع والمطلِع . والنصب في كلّه جائز وإن لم تسمعهُ فلا تنكرنه إن أتى .

وما كان من ذوات الياء والواو من دعوت وقضيت فالمفعل منه فيه مفتوح اسما كان أو مصدراً ، إلا المأقِي من العين فإن العرب كسرت هذا الحرف . وبعضُ العرب يسمّى مأوَى الإبل مأوِي فهذان نادران . وإنما امتنعوا من ( كسر العين ) في الياء والواو لأن الياء والواو تذهبان في السكت للتنوين الذي يلحق ، فردّوها إلى الألف إذ كانت لا تسقط في السكوت .

وإذا كان المفعل من كال يكيل وشبهه من الفعل فالاسم منه مكسور ، والمصدر مفتوح من ذلكَ مال مَمِيلا ومَمالا تذهب بالكسر إلى الأسماء ، وبالفتح إلى المصَادر . ولو فتحتهما جميعاً أو كسرتهما في المصدر والاسم لجاز . تقول العرب : المعاش . وقد قالوا : المعيش . وقال رُؤبة ابن العجَّاج :

إليك أشكو شدّة المعيش 106 ا *** ومرّ أعوام نتَفْن ريشى

نتف الحُبَارَى عن قَرَا رَهِيشِ *** . . .

القَرَا : الظهر ، وقال الآخر :

أنا الرجل الذي قد عبتموهُ *** وما فيكم لَعَيّاب مَعَاب

ومثله مَسَار ومَسِير ، وما كان يشبهه فهو مثله .

وإذا كان يفعل مفتوحا من ذوات اليَاء والواو مثل يخاف ويهاب فالاسم والمصدر منه مفتوحان مثل المخاف والمهاب :

وما كان من الواو مضموما مثل يقوم ويقول ويعود ويقود وأشباهه فالاسم والمصدر فيه مفتوحان ، وإنما فتحوه إذا نووا الاسم ولَمْ يكسروه كما كُسِر المَغْرِب لأنهم كرهوا تحول الواو إلى الياء فتلتبس الواو بالياء .

وما كان أوّله واواً مثل وزنت وورثت ووجِلت فالمفعل فيه اسما كان أو مصدراً مكسور ؛ مثل قوله { أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً } وكذلك يَوْحَل ويَوْحَل المفعل منهما مكسور ( في الوجهين ) وزعم الكسائي أنه سمع مَوْجَل ومَوْحَل . قال الفراء : وسمعت أنا موضَع . وإنما كسروا ما أوّله الواو ، لأن الفعل فيه إذا فتح يكون على وجهين . فأما الذي يقع فالواو منه ساقطة ؛ مثل وَزَن يزِنُ . والذي لا يقع تثبت واوه في يفعل . والمصادر تستوي في الواقع وغير الواقع . فلم يجعلوا في مصدرَيهما فرقاً ، إنما تكون الفروق في فعل يفعل .

وما كان من الهمز فإنه مفتوح في الوجهين . وكأنهم بَنَوه على يفعَل ؛ لأن ما لامه همزة يأتي بفتح العين من فَعَل ومن فَعِل . فإن قلت : فلو كَسَروه إرادَة الاسم كما كسروا مجمِعاً . قلت : لم يأت . وكأنهم أنزلوا المهْمُوز . بمنزلة اليَاء والواو ؛ لأن الهمز قد يُترك فتَلْحقهما .

وما كان مفعل مُشتقّاً من أفعلت فلك فيه ضمّ الميم من اسمه ومصدره . ولك أن تخرجه على أوَّليته قبل أن تزاد عليه الألف . فتقول : أخرجته مُخْرجاً ومَخْرجاً ، وأنزلته مُنْزَلاً ومَنْزِلاً . وقرئ { أَنْزِلْنِي مُنْزَلاَ مُبَارَكاً } { وَأَنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينِ } و { مَنْزِلا } .

وما كان مما يعمل به من الآلة مثل المِرْوحة والمِطرقة وأشباه ذلك مما تكون فيه الهاء أو لا تكون فهو مكسور الميم منصوب العين ؛ مثل المِدْرع والمِلحف والمِطرق وأشباه ذلك . إلا أنهم . قالوا : المَطهرة والمِطهرة ، والمَرقاة والمِرقاة والمَسقاة والمِسقاة . فمن كَسرها شبَّهها بالآلة التي يُعمل بها . ومن فتح قال : هذا موضع يُفعل فيه فجعله مخالفاً ففتح الميم ؛ أَلا ترى أن المروحة وأشباهها آلة يعمل بها ، وأن المطهرة والمرقاة في موضعهما لا تزولان يعلم فيهما .

وما كان مصدراً مؤنّثاً فإنّ العرب قد ترفع عينه ؛ مثل المقدُرة وأشباهه . ولا يفعلون ذلك في مذكَّر ليست فيه الهاء ؛ لأن الهاء إذا أدخلت سقط عنها بناء فعل يفعل فصَارت اسما مختلفاً ، ومفعل يبنى على يفعل ، فاجتنوا الرَّفعة في مفعل ، لأن خِلقة يفعل التي يلزمها الضمّ كَرُم يكرُم فكرهوا أن يُلزموا العين من 106 ب مفعل ضمَّة فيَظنَّ الجاهل أن في مفعل فرقاً يلزم كما يلزم فَعِل يفعَل الفُروقُ ، ففتحت إرادة أن تَخلط بمصادر الواقع . فأما قول الشاعر :

لِيوم رَوْعٍ أو فَعَال مَكْرُم *** . . .

فإنه جمع مَكْرُمة وَمكْرُم . ومثله قول الآخر :

بثين الزمى لا إنّه إن لزِمته *** على كثرة الواشين أي مَعُونِ

أراد جمع معونة . وكان الكسائي يقول : هما مفعل نادران لا يقاس عَليهما وقد ذهبَ مذهباً . إلاّ أنى أجد الوجه الأول أجمل للعربية مما قال . وقد تقلب فيه الياء إلى الواو فيقال :

وكنت إذا جارى دعا لَمضُوفةٍ *** أشمِّر حتى يَنْصُف الساق مئزرى

جعلها مفعُلة وهي من الياء فقبلها إلى الواو لضمَّة ما قبلها ، كما قالوا : قد سُور به .

وقد قالت العرب في أحرف فضمّوا الميم والعين ، وكسروا الميم والعين جميعاً . فما ضمّوا عينه وميمَهُ قولهم : مُكْحُلة ومُسْعُط ومُدْهُن ومُدُقّ . ومما كسروا ميمه وعينه مِنْخِر ومِنْتِن . ومما زادوا عليه ياء للكسر ، وواواً للضم مِسكين ومِنديل ومِنطيق . والواو نحو مُغْفُور ومُغْثُور وهو الذي يسقط على الثُمام ويقال للمِنخِر : مُنخور وهم طَيء . والذين ضمّوا أوله وعينه شبّهوا الميم بما هو من الأصل ، كأنه فُعلول . وكذلك الذين كسروا الميم والعين شبّهوه بفِلعيل وفِعلِل .

وما كان من ميم زائدة أدخلتها على فِعل رباعى قد زيد على ثلاَثيّة شيء من الزيادات فالميم منه في الفاعل والمفعول به والمصدر مضمومة . من ذلك قولك رجل مُستضرَبٌ ( ومُستضَربٌ ) ومستطعِم ومستطعَم . يكون المستطعم - بالفتح - مصدراً ورجلا وكذلك المضاربَ هو الفاعل والمضاربَ - بالفتح - مصدر ورجل . وكلّ الزيادات على هذا لا ينكسر ، ولا يختلف فيه في لغات ولا غيرها ؛ إلا أن من العرب - وهم قليل - مَن يقول في المتكبِّر : متكبَّر كأنهم بنَوه على يتكبَّر . وهو من لغة الأنصار وليس مما يُبنى عليه . قال الفراء : وحُدّثتُ أن بعض العرب يكسر الميم في هذا النوع إذا أدغم فيقول هم المِطَّوِّعة والمِسَّمِع للمُستمع . وهم من الأنصار . وهي من المرفوض . وقالت العرب : مَوْهَب فجعلوه اسما موضوعا على غير بناء ، ومَوْكَل اسما موضوعاً . ومنه مَوحَد لأنهم لم يريدوا مصدر وَحَد ، إنما جُعل اسما في معنى واحد مثل مَثْنَى وثُلاَث ورُبَاع . وأما قولهم : مَزْيد وَمَزْوَد فهما أيضاً اسمان مختلِفان على غير بناء الفعل ؛ ولك في الاختلاف أن تفتح ما سَبيله الكسر إذا أشبه بعض المُثُل ، وتضمّ المفتوح أو تكسره إذا وجَّهته إلى مثالٍ من أسمائهم كما قيل مَعفور للذي يسقط على الثمام وميمه زائدة فشبه بفُعلول ، وكما قَالَتْ العرب ( في المصير وهو من صِرت مُصْران للجميع ) ومَسيلِ الماء وهو مفعِل : مُسْلان للجميع فشبَّهوا مفعلا بفَعِيل ؛ ألا ترى أنهم قالوا سُؤته مسائية وإنما هي مساءة على مَفْعَلة فزيدت عليها الياء من آخرها كما تزاد على فعالة نحو كراهة وكراهية وطَبَانة وطبانِيَة .