اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا} (59)

قوله : { وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ } أي قرى الأوَّلين : قوم نوح وعاد وغيرهم ، وتلك مبتدأ ، والقرى خبره .

و " أهْلكْنَاهُمْ " حينئذ : إمَّا خبر ثانٍ ، أو حال ، ويجوز أن تكون " تِلْكَ " مبتدأ ، و " القرى " صفتها لأنَّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجنس أو بيان لها ، أو بدلٌ منها ، و " أهْلَكنَاهَا " الخبر ، ويجوز أن يكون " تِلْكَ " منصوب المحلِّ بفعلٍ مقدَّر على الاشتغال .

والإضمار في " أهْلَكنَاهُمْ " عائد على " أهْل " المضاف إلى القرى ، إذ التقدير : وأهل تلك القرى ، فراعى المحذوف ، فأعاد عليه الضمير ، وتقدَّم ذلك في أول الأعراف [ الآية : 4 ] .

و " لمَّا ظلموا " يجوز أن يكون حرفاً ، وأن يكون ظرفاً ، وقد تقدَّم .

قوله : " وجعلنا لمهلكهم موعداً " قرأ{[21182]} عاصم " مَهْلَك " بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وحفص بكسر اللام ، والباقون بفتحها ، فتحصَّل من ذلك ثلاث قراءاتٍ ، لعاصم قراءتان ؛ فتح الميم مع فتح اللام ، وهي رواية أبي بكرٍ عنه ، والثانية فتح الميم ، مع كسر اللام ، وهي رواية حفص عنه ، والثالثة : ضم الميم ، وفتح اللام ، وهي قراءة الباقين .

وأمَّا قراءة أبي بكرٍ ، ف " مَهْلَك " فيها مصدرٌ مضاف لفاعله ، وجوَّز أبو عليٍّ أن يكون مضافاً لمفعوله ، وقال : إنَّ " هَلَكَ " يتعدَّى دون همز ، وأنشد : [ الرجز ]

ومَهْمَهٍ هَالكِ مَنْ تعرَّجا{[21183]} *** ف " مَنْ " معمول ل " هالكٍ " وقد منع النَّاسُ ذلك ، وقالوا : لا دليلَ في البيت ؛ لجواز أن يكون ذلك من باب الصفةِ المشبهة ، والأصل : هالك من تعرَّجا .

ف " مَنْ تعرَّج " فاعل الهالك ، ثم أضمر في " هَالِك " ضمير " مهمه " ونصب " من تعرَّج " نصب " الوجه " في قولك : " مررتُ برجلٍ حسنٍ الوجهَ " ثم أضاف الصفة ، وهي " هَالِك " إلى معمولها ، فالإضافة من نصبٍ ، والنصب من رفعٍ ، فهو كقولك : " زيدٌ منطلقُ اللسان ، ومنبسطُ الكفِّ " ولولا تقدير النصبِ ، لامتنعتِ الإضافة ؛ إذ اسم الفاعل لا يضاف إلى مرفوعه ، وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير النصب ؛ إذ هذا جارٍ مجرى الصفة المشبهة ، والصفة المشبهة تضاف إلى مرفوعها ، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر ، وهو : هل يقع الموصول في باب الصفة أم لا ؟ والصحيح جوازه ، قال الشاعر : [ البسيط ]

فَعُجْتُهَا قِبلَ الأخْيار مَنْزلةً *** والطَّيبِي كُلِّ ما التَاثَتْ به الأزُرُ{[21184]}

وقال الهذليُّ : [ الطويل ]

أسِيلاتُ أبْدانٍ دِقَاقٌ خُصورُهَا *** وثِيرَاتُ ما التفَّت عليها المَلاحِفُ{[21185]}

وقال أبو حيَّان في قراءة أبي بكرٍ هذه : " إنَّه زمانٌ " ولم يذكر غيره ، وجوَّز غيره فيه الزمان والمصدر ، وهو عجيبٌ ؛ فإنَّ الفعل متى كسرت عينُ مضارعه ، فتحت في المفعل مراداً به المصدر ، وكسرت فيه مراداً به الزمان والمكان ، وكأنَّه اشتبهت عليه بقراءة حفص ؛ فإنَّه بكسر اللام ، كما تقدَّم ، فالمفعل منه للزَّمان والمكان .

وجوَّز أبو البقاء{[21186]} في قراءته أن يكون المفعل فيها مصدراً ، قال : " وشذَّ فيه الكسر كالمرجع " وإذا قلنا : إنَّه مصدر ، فهل هو مضافٌ لفاعله ، أو مفعوله ؟ يجيء ما تقدَّم في قراءة رفيقه ، وتخريجُ أبي عليٍّ ، واستشهاده بالبيت ، والردُّ عليه ، كل ذلك عائد هنا .

وأمَّا قراءة الباقين ، فواضحةٌ ، و " مُهْلكٌ " فيها يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله أي لإهلاكهم ، وأن يكون زماناً ، ويبعد أن يراد به المفعول ، أي : وجعلنا للشخصِ ، أو للفريقِ المهلكِ منهم .

والمَوْعِدُ : مصدر ، أو زمان .


[21182]:ينظر في قراءتها: السبعة 393، والتيسير 144، والنشر 2/311، والحجة للقراء السبعة 5/156، والوسيط 3/155، والقرطبي 10/8، والبحر 6/133، والدر المصون 4/467.
[21183]:البيت للعجاج . ينظر: ديوانه 367، الخصائص 2/210، المقتضب 4/180، المحتسب 1/92، البحر 6/133، اللسان "هلك" والتهذيب "هلك"، الدر المصون 4/467.
[21184]:البيت للفرزدق ينظر: ديوانه (1/182)، البحر 6/133، الأشموني 3/6، التصريح 2/85، حاشية يس 2/85، الدر المصون 4/467.
[21185]:البيت لعمرو بن أبي ربيعة، وينسب للهذلي ؛ ينظر في ديوان عمر 254، البحر 6/133، روح المعاني 15/307، الدر المصون 4/468.
[21186]:ينظر: الإملاء 2/105.