الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} (208)

قوله : { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } : يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ل " قريةٍ " ، وأَنْ تكونَ حالاً منها . وسَوَّغَ ذلك سَبْقُ النفيِ . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف عَزَلْتَ الواوَ عن الجملةِ بعدَ " إلاَّ " ولم تُعْزَلْ عنها في قولِه :

{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] قلت : الأصلُ عَزْلُ الواوِ ؛ لأنَّ الجملةَ صفةٌ ل " قريةٍ " . وإذا زِيْدَتْ فلتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ كما قي قوله : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] . قال الشيخ : " ولو قدَّرنا " لها مُنْذِرُون " جملةً لم يَجُزْ أن تجيءَ صفةً بعد " إلاَّ " .

ومذهبُ الجمهورِ أنه لا تجيءُ الصفةُ بعد " إلاَّ " معتمدةً على أداةِ الاستثناءِ نحو : ما جاءَني أحدٌ إلاَّ راكبٌ . وإذا سُمِع مثلُ هذا خَرَّجوه على البدلِ ، أي : إلاَّ رجلٌ را كبٌ . ويَدُلُّ على صحةِ هذا المذهبِ أنَّ العربَ تقولُ : " ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ قائماً " ولا يُحْفَظُ عنهم " إلاَّ قائمٍ " بالجرِّ . فلو كانت الجملةُ صفةً بعد " إلاَّ لَسُمِعَ الجرُّ في هذا . [ وأيضاً فلو كانَتْ الجملةُ صفةً للنكرة لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفةِ بعد " إلاَّ " يعني نحو : " ما مررتُ بزيدٍ إلاَّ العاقلِ " ] .

ثم قال : " فإنْ كانَتِ الصفةُ غيرَ معتمدةٍ على الأداةِ جاءَتِ الصفةُ بعد " إلاَّ " نحو : " ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمروٍ " . التقدير : ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ . وأمَّا كونُ الواوِ تُزاد لتأكيد وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ فغيرُ معهودٍ في عبارةِ النَّحْويين . لو قلتَ : " جاءني رجلٌ وعاقلٌ " أي : " رجلٌ عاقلٌ " لم يَجُزْ . وإنما تدخل الواوُ في الصفاتِ جوازاً إذا عُطِفَ بعضُها على بعضٍ ، و تَغَايَرَ مدلُولها نحو : مررت بزيدٍ الشجاعِ والشاعرِ . وأمَّا { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] فتقدَّم الكلامُ عليه " .

قلت : أمَّا كونُ الصفةِ لا تقعُ بعد " إلاَّ " معتمدةً ، فالزمخشريُّ يختارُ غيرَ هذا ، فإنَّها مسألةً خلافيةً . وأمَّا كونُه لم يُقَلْ " إلاَّ قائماً " بالنصبِ دونَ " قائم " بالجرِّ فذلك على أحدِ الجائزين وليس فيه دليلٌ على المَنْعِ مِنْ قَسيمِه . وأمَّا قولُه " فغيرُ معهودٍ من كلامِ النحويين " فمَمنوعٌ . هذا ابنُ جني نَصَّ عليه في بعضِ كتبه . وأمَّا إلزامُه أنها لو كانَتِ الجملةُ صفةً بعد " إلاَّ " للنكرةٍ لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفة بعد " إلاَّ " فغيرُ لازمٍ ؛ لأنَّ ذلك مختصٌّ بكونِ الصفةِ جملةً . وإذا كانت جملةً تعذَّر كونُها صفةً للمعرفةِ . وإنما اختصَّ ذلك بكونِ الصفةِ جملةً ؛ لأنها لتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ ، والتأكيد لائقٌ بالجملةِ . وأمَّا قولُه : " لو قلتَ : جاءني رجلٌ وعاقلٌ لم يَجُزْ " فمُسَلَّمٌ ، ولكن إنما امتنع ذلك في جملةً ، فإنَّ اللَّبْسَ مُنْتَفٍ . وقد تقدَّم { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ } فَلْيُلْتَفَتْ إليه ثَمَّة .