البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} (208)

ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله ، إن هي عصت ولم تؤمن ، كما قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } وجمع منذرون ، لأن { من قرية } عام في القرى الظالمة ، كأنه قيل : وما أهلكنا القرى الظالمة .

والجملة من قوله : { لها منذرون } ، في موضع الحال { من قرية } ، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال ، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائناً لها منذرون ، فيكون من مجيء الحال مفرداً لا جملة ، ومجيء الحال من المنفي كقول : ما مررت بأحد إلا قائماً ، فصيح .

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ، ولم تعزل عنها في قوله : { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } قلت : الأصل عزل الواو ، لأن الجملة صفة لقرية ، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، كما في قوله : { سبعة وثامنهم كلبهم } انتهى .

ولو قدرنا لها منذرون جملة ، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا .

ومذهب الجمهور ، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو : ما جاءني أحد إلا راكب .

وإذا سمع مثل هذا ، خرجوه على البدل ، أي : إلا رجل راكب .

ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائماً ، ولا يحفظ من كلامها : ما مررت بأحد إلا قائم .

فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة ، لورد المفرد بعد إلا صفة لها .

فإن كانت الصفة غير معتمدة على أداة ، جاءت الصفة بعد إلا نحو : ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو ، التقدير : ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد .

وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، فغير معهود في كلام النحويين .

لو قلت : جاءني رجل وعاقل ، على أن يكون وعاقل صفة لرجل ، لم يجز ، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض ، وتغاير مدلولها نحو : مررت بزيد الكريم والشجاع والشاعر .

وأما { وثامنهم كلبهم } فتقدم الكلام عليه في موضعه .