البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } قال أبو سليمان الدمشقي : نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم : كيف من لا يستطيع الجهاد ؟ .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل الله أعداء الله الكفار ، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمداً بغير تأويل وبتأويل ، فنهى أن يقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك ، ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد ، وبيان تفاوتهما ، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد ، مظنة أن يصيب المجاهد مؤمناً خطأ ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل فيتقاعسن عن الجهاد لهذه الشبهة ، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم ، دفعاً لهذه الشبهة .

ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد ، وإثباته لا يدل على عموم المساواة ، وكذلك نفيه .

وإنما عنى نفي المساواة في الفضل ، وفي ذلك إبهام على السامع ، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التي بين القاعد والمجاهد .

فالمتأمل يبقي مع فكره ، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، والقاعد هو المتخلف عن الجهاد ، وعبر عن ذلك بالقعود ، لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب .

وأولوا الضرر هم من لا يقدر على الجهاد لعمى ، أو مرض ، أو عرج ، أو فقد أهبة .

والمعنى : لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : غير برفع الراء .

ونافع ، وابن عامر ، والكسائي : بالنصب ، ورويا عن عاصم .

وقرأ الأعمش وأبو حيوة : بكسرها .

فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة ، وهو قول سيبويه ، كما هي عنده صفة في { غير المغضوب عليهم } ومثله قول لبيد :

وإذا جوزيت قرضاً فاجزه *** إنما يجزي الفتى غير الجمل

كذا ذكره أبو عليّ ، ويروى : ليس الجمل .

وأجاز بعض النحويين فيه البدل .

قيل : وهو إعراب ظاهر ، لأنه جاء بعد نفي ، وهو أولى من الصفة لوجهين : أحدهما : أنهم نصوا على أنَّ الأفصح في النفي البدل ، ثم النصب على الاستثناء ، ثم الوصف في رتبة ثالثة .

الثاني : أنه قد تقرر أنّ غيراً نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا ، هو المشهور ، ومذهب سيبويه .

وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع ، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها ، وإما باعتقاد أنّ القاعدين لما لم يكونوا ناساً معينين ، كانت الألف واللام فيه جنسية ، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة ، وهذا كله ضعيف .

وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين .

وقيل : استثناء من المؤمنين ، والأول أظهر لأنه المحدث عنه .

وقيل : انتصب على الحال من القاعدين .

وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين ، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من { الذين أنعمت عليهم } ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله : القاعدون .

أي : كائنين من المؤمنين .

واختلفوا : هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا ؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة ، أو قلنا بالأرجح من أنّ الاستثناء من النفي إثبات ، لزمت المساواة .

وقال ابن عطية : وهذا مردود ، لأن الضرر لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم إنْ خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، وكذا قال ابن جريج : الاستثناء لرفع العقاب ، لا لنيل الثواب .

المعذور يستوفي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد ، إذ كان يتمنى لو كان قادراً لخرج .

قال : استثنى المعذور من القاعدين ، والاستثناء من النفي إثبات ، فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى .

وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتفٍ ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر ، والمجاهد من التفاوت العظيم ، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه .

ومثله : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }

أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته لينهضم إلى التعلم ، ويرتقي عن حضيض الجهل إلى شرف العلم .

قال بعض العلماء : كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعاً ، وإلا لم يكن لقوله : لا يستوي معنى ، لأن من ترك الفرض لا يقال : إنه لا يستوي هو والآتي به ، بل يلحق الوعيد بالتارك ، ويرغب الآتي به في الثواب .

وقال الماتريدي : نفى التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه ، لا يدلّ على أنّ الجهاد ما كان فرضاً في ذلك الوقت .

ألا ترى أن قوله تعالى : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } نفى المساواة بين المؤمن والفاسق ، والإيمان فرض .

وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } الآية وقال : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والعلم في كثير من الأشياء فرض .

وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه ، فلأن يجوز بين فاعل الفرض وتاركه بطريق الأولى ، وإنما لم يلحق الإثم تاركه لأنه فرض كفاية انتهى .

والظاهر أنّ نفي هذا الاستواء ليس مخصوصاً بقاعدة عن جهاد مخصوص ، ولا مجاهد جهاداً مخصوصاً بل ذلك عام .

وعن ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها .

وعن مقاتل : إلى تبوك .

وقال ابن عباس وغيره : أولوا الضرر هم أهل الأعذار .

إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد .

وفي الحديث : « لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر » وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس .

وفي قوله : { إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم } تقديم الأنفس على الأموال لتباين الغرضين ، لأن المجاهد بائع ، فأخر ذكرها تنبيهاً على أنّ المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب .

والمشتري قدمت له النفس تنبيهاً على أنّ الرغبة فيها أشد ، وإنما يرعب أولاً في الأنفس الغالي .

{ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } الظاهر : أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر ، لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم ، فذكر ما امتازوا به عليهم ، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة ، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر ، كان قائلاً قال : ما لهم لا يستوون ؟ فقيل : فضل الله المجاهدين ، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخراً درجات ، وما بعدها وهم القاعدون غير أولي الضرر .

وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما ، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة ، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة ، فنبه بإفراد الأول ، وجمع الثاني على أنّ ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير .

وقيل : المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم ، كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه ، وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال ، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم ، فلهم درجات بحسب استحقاقهم ، فمنهم من يكون له الغفران ، ومنهم من يكون له الرحمة فقط .

فكان الرحمة أدنى المنازل ، والمغفرة فوق الرحمة ، ثم بعد الدرجات على الطبقات ، وعلى هذا نبه بقوله : { هم درجات عند الله } ومنازل الآخرة تتفاوت .

وقيل : الدرجة المدح والتعظيم ، والدرجات منازل الجنة .

وقيل : المفضل عليهم أولاً غير المفضل عليهم ثانياً .

فالأول هم القاعدون بعذر ، والثاني هم القاعدون بغير عذر ، ولذلك اختلف المفضل به : ففي الأول درجة ، وفي الثاني درجات ، وإلى هذا ذهب ابن جريج ، وهو من لا يستوي عنده أولوا الضرر والمجاهدون .

وقيل : اختلف الجهادان ، فاختلف ما فضل به .

وذلك أن الجهاد جهادان : صغير ، وكبير .

فالصغير مجاهدة الكفار ، والكبير مجاهدة النفس .

وعلى ذلك دل قوله عليه السلام : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » وإنما كان مجاهدة النفس أعظم ، لأنّ من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا ، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا ، فخصّ مجاهدة النفس بالدرجات تعظيماً لها .

وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال : فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين ، كأنه قيل : ما لهم لا يستوون ؟ فأجيب بذلك : والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف .

ثم قال : ( فإن قلت ) : قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات من هم ؟ ( قلت ) : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء ، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم ، لأن الغزو فرض كفاية انتهى كلامه .

فقال : أولاً المعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، وقال في هذا الجواب : على القاعدين الأضراء ، وهذا تناقض .

والظاهر أنّ قوله : درجات ، لا يراد به عدد مخصوص ، بل ذلك على حسب اختلاف المجاهدين .

وقال ابن زيد : هي السبع المذكورة في براءة في قوله : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } الآيات .

وقال ابن عطية : درجات الجهاد لو حصرت لكانت أكثر من هذه انتهى .

وقال ابن مجيريز : الدرجات في الجنة سبعون درجة ، كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب : مقاتل ، ورجحه الطبري .

وفي الحديث الصحيح : « أن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض » وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله : وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ، هو على سبيل التوكيد ، لا أنّ مدلول درجة مخالف لمدلول درجات في المعنى ، بل هما سواء في المعنى .

قال تعالى : { وللرجال عليهن درجة } لا يراد بها شيء واحد ، بل أشياء .

وكرر التفضيل للتأكيد والترغيب في أمر الجهاد ، وإلى هذا ذهب الماتريدي قال : وفي الآية دلالة على أنّ الجهاد فرض كفاية ، حيث يسقط بقيام بعض ، وإن كان خطاب قوله : وقاتلوا في سبيل الله يعم انتهى .

{ وكلاًّ وعد الله الحسنى } أي وكلاً من القاعدين والمجاهدين .

وقيل : وكلاً من القاعدين غير أولي الضرر ، وأولي الضرر ، والمجاهدين .

والحسنى هنا : الجنة باتفاق .

وقال عبد الجبار : هذا الوعد لا يليق بأمر الآخرة .

ولما ذكر ما للمجاهدين من الحظ عاجلاً جاز أن يتوهم أنه كما اختص بهذه النعم ، فكذلك يختص بالثواب .

فبيّن أنَّ للقاعدين ما للمجاهدين من الحسنى في الوعد مع ذلك ، ثم بيّن أنّ لهم فضل درجات ، لأنه لو لم يذكر ذلك لأوهم أنّ حالهما في الوعد بالحسنى سواء انتهى .

وانتصب كلاً على أنه مفعول أوّل لوعد ، والثاني هو الحسنى .

وقرئ : وكل بالرفع على الابتداء ، وحذف العائد أي : وكلهم وعد الله .

{ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجاتٍ منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً } قيل : الدرجات باعتبار المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة ، والمغفرة باعتبار ستر الذنب ، والرحمة باعتبار دخول الجنة .

والظاهر أنّ هذا التفضيل الخاص للمجاهد بنفسه وماله ، ومن تفرد بأحدهما ليس كذلك .

ومن المعلوم أنّ من جاهد ، ومَن أنفق ماله في الجهاد ، ليس كمن جاهد بنفقة من عند غيره .

وفي انتصاب درجة ودرجات وجوه : أحدها : أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل ، كأنه قيل : فضلهم تفضيله .

كما تقول : ضربته سوطاً ، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول : ضربته أسواطاً تعني : ضربات .

والثاني : أنهما ينتصبان انتصاب الحال أي : ذوي درجة ، وذوي درجات .

والثالث : على تقدير حرف الجر أي : بدرجة وبدرجات .

والرابع : أنهما انتصبا على معنى الظرف ، إذ وقعا موقعه أي : في درجة وفي درجات .

وقيل : انتصاب درجات على البدل من أجراً قيل : ومغفرة ورحمة معطوفان على درجات .

وقيل : انتصبا بإضمار فعلهما أي : غفر ذنبهم مغفرة ورحمهم رحمة .

وأما انتصابُ أجراً عظيماً فقيل : على المصدر ، لأنّ معنى فضل معنى أجر ، فهو مصدر من المعنى ، لا من اللفظ .

وقيل : على إسقاط حرف الجر أي بأجر .

وقيل : مفعول بفضلهم لتضمينه معنى أعطاهم .

قال الزمخشري : ونصب أجراً عظيماً على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدّمة عليها انتهى .

/خ100