البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

{ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } روى مجاهد عن ابن عباس قال : كما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد ، وقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر ، الضرب في الأرض .

والظاهر جواز القصر في مطلق السفر ، وبه قال أهل الظاهر .

واختلفت فقهاء الأمصار في حدّ المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : تقصر في أربعة برد ، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً .

وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاث .

وقال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام .

وقال الأوزاعي : مسيرة يوم تام ، وحكاه عن عامة العلماء .

وقال الحسن والزهري : مسيرة يومين .

وروي عن مالك : يوم وليلة .

وقصر أنس في خمسة عشر ميلاً .

والظاهر أنه لا يعتبر نوع سفر ، بل يكفي مطلق السفر ، سواء كان في طاعة أو مباح أو معصية ، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة .

وروي عن ابن مسعود : أنه لا يقصر إلا في حج أو جهاد .

وقال عطاء : لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة ، وروي عنه : أنها تقصر في السفر المباح .

وأجمعوا على القصر في سفر الحج والعمرة والجهاد وما ضارعها من صلة رحم ، وإحياء نفس .

والجمهور على أنه لا يجوز في سفر المعصية كالباغي ، وقاطع الطريق ، وما في معناهما .

والظاهر أنه لا يقصر إلا حتى يتصف بالسفر بالفعل ، ولا اعتبار بمسافة معينة ، ولا زمان .

وروي عن الحرث بن أبي ربيعة : أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله ، والأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال عطاء وسليمان بن موسى .

والجمهور على أنه لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية .

وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل .

والظاهر من قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أن القصر مباح .

وقال مالك في المبسوط : سنة .

وقال حماد بن أبي سليمان ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، واسماعيل القاضي : فرض ، وروي عن عمر بن عبد العزيز .

والظاهر أن قوله : أن تقصروا ، مطلق في القصر ، ويحتاج إلى مقدار ما ينقص منها .

فذهبت جماعة إلى أنه قصر من أربع إلى اثنين .

وقال قوم : من ركعتين في السفر إلى ركعة ، والركعتان في السفر تمام .

{ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ظاهره أنّ إباحة القصر مشروطة بالخوف المذكور ، وإلى ذلك ذهب جماعة .

ومن ذهب إلى أنّ القصر هو من ركعتي السفر إلى ركعة ، شرط الخوف ، وقال : تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها ، ويكون للإمام ركعتان .

وقالت طائفة : لا يراد بالقصر الصلاة هنا القصر من ركعتيها ، وإنما المراد القصر من هيآتها بترك الركوع والسجود في الإيماء ، وترك القيام إلى الركوع ، وروي فعل ذلك عن ابن عباس وطاووس .

وذهب آخرون إلى أنّ الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيآتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى ركعتين ، ورجح هذا القول الطبري بقوله : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } أي بحدودها وهيآتها الكاملة .

والحديث الصحيح يدلّ على أنّ هذا الشرط لا مفهوم له ، فلا فرق بين الخوف والأمن ، وحديث يعلى في ذلك مشهور صحيح .

والفتنة هنا هي التعرض بما يكره من قتال وغيره .

ولغة الحجاز : فتن ، ولغة تميم وربيعة وقيس : أفتن رباعياً .

وقال أبو زيد : قصر من صلاته قصر ، أنقص من عددها .

وقال الأزهري : قصر وأقصر .

وقرأ ابن عباس : أن تقصروا رباعياً ، وبه قرأ الضبي عن رجاله .

وقرأ الزهري : تقصروا مشدّداً ، ومن للتبعيض .

وقيل : زائدة .

وقيل : الشرط ليس متعلقاً بقصر الصلاة ، بل تم الكلام عند قوله : أن تقصروا من الصلاة ، ثم ابتدأ حكم الخوف .

ويؤيده على قول : أنّ تجاراً قالوا : إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فنزلت : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، ثم انقطع الكلام .

فلما كان بعد ذلك بسنة في غزاة بني أسد حين صليت الظهر قال بعض العدو : هلا شددتم عليهم وقد مكنوكم من ظهورهم ؟ فقالوا : إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم ، فنزلت : { إِن خفتم } -إِلى قَوله - { عذاباً مهيناً } صلاة الخوف .

ورجح هذا بأنه إذا علق الشرط بما قبله كان جواز القصر مع الأمن مستفاداً من السنة ، ويلزم منه نسخ الكتاب بالسنة .

وعلى تقدير الاستئناف لا يلزم ، ومتى استقام اللفظ وتم المعنى من غير محذور النسخ كان أولى انتهى .

وليس هذا بنسخ ، إنما فيه عدم اعتبار مفهوم الشرط ، وهو كثير في كلام العرب .

ومنه قول الشاعر :

عزيز إذا حلّ الخليقان حوله *** بذي لحب لجأته وضواهله

وفي قراءة أبيّ وعبد الله : أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم ، بإسقاط إن خفتم ، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى أي : مخافة أن يفتنكم .

وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد .

{ إِن الكافرين كانوا لكم عدوّاً مبيناً } عدو : وصف يوصف به الواحد والجمع .

قال : هم العدو ، ومعنى مبيناً : أي مظهراً للعداوة ، بحيث أنّ عداوته ليست مستورة ، ولا هو يخفيها ، فمتى قدر على أذية فعلها .

/خ113