تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ} (20)

يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على عظمته وكمال قدرته أنه خلق أباكم آدم من تراب ، { ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } ، فأصلكم من تراب ، ثم من ماء مهين ، ثم تَصَوّر فكان علقة ، ثم مضغة ، ثم صار عظاما ، شكله على شكل الإنسان ، ثم كسا الله تلك العظام لحما ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو سميع بصير . ثم خرج من بطن أمه صغيرا ضعيف القوى والحركة ، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون ، ويسافر في أقطار الأقاليم ، ويركب متن البحور ، ويدور أقطارَ الأرض ويتكسب ويجمع الأموال ، وله فكرة وغور ، ودهاء ومكر ، ورأي وعلم ، واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه . فسبحان مَنْ أقدرهم وسَيّرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب ، وفاوت بينهم في العلوم والفكرة ، والحسن والقبح ، والغنى والفقر ، والسعادة والشقاوة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد وغُنْدَر ، قالا حدثنا عَوْف ، عن قسامة بن زهير{[22795]} ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب ، والسهل والحزن ، وبين ذلك " .

ورواه أبو داود والترمذي من طرق ، عن عوف الأعرابي ، به{[22796]} . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .


[22795]:- في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
[22796]:- المسند (4/400) وسنن أبي داود برقم (3693) وسنن الترمذي برقم (2955).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ} (20)

لما كان الاستدلال على البعث متضمناً آيات على تفرده تعالى بالتصرف ودلالته على الوحدانية انتقل من ذلك الاستدلال إلى آيات على ذلك التصرف العظيم غير ما فيه إثبات البعث تثبيتاً للمؤمنين وإعذاراً لمن أشركوا في الإلهية . وقد سبقت ست آيات على الوحدانية ، وابتدئت بكلمة { ومن آياته } تنبيهاً على اتحاد غرضها ، فهذه هي الآية الأولى ولها شبه بالاستدلال على البعث لأن خلق الناس من تراب وبث الحياة والانتشار فيهم هو ضرب من ضروب إخراج الحي من الميت ، فلذلك كانت هي الأولى في الذكر لمناسبتها لما قبلها فجعلت تخلصاً من دلائل البعث إلى دلائل عظيم القدرة . وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الإنسان وتقويم بشريته .

وتقدم كيف كان الخلق من تراب عند قوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين } في سورة المؤمنين ( 12 ، 13 ) .

فضمير النصب في خَلَقَكم } عائد إلى جميع الناس وهذا في معنى قوله تعالى في سورة الحج ( 5 ) { فإنّا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة } الآية .

وهذا استدلال للناس بأنفسهم لأنهم أشعرُ بها مما سواها ، والناس يعلمون أن النطف أصل الخلقة ، وهم إذا تأملوا علموا أن النطفة تتكون من الغذاء ، وأن الغذاء يتكون من نبات الأرض ، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فعلموا أنهم مخلوقون من تراب ، فبذلك استقام جعل التكوين من التراب آية للناس أي علامة على عظيم القدرة مع كونه أمراً خفياً . على أنه يمكن أن يكون الاستدلال مبنياً على ما هو شائع بين البشر أن أصل الإنسان تراب حسبما أنبأت به الأديان كلها . وبهذا التأويل يصح أيضاً أن يكون معنى { خلقكم من تراب } خلق أصلكم وهو آدم ، وأول الوجوه أظهرها . فالتراب موات لا حياة فيه وطبعه مناففٍ لطبع الحياة لأن التراب بارد يابس وذلك طبع الموت ، والحياةُ تقتضي حرارة ورطوبة فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي المدرك . وقد أشير إلى الحياة والإدراك بقوله { إذا أنتم بشر } ، وإلى التصرف والحركة بقوله { تنتشرون } ، ولما كان تمام البشرية ينشأ عن تطور التراب إلى نبات ثم إلى نطفة ثم إلى أطوار التخلق في أزمنة متتالية عطفت الجملة بحرف المهلة الدال على تراخي الزمن مع تراخي الرتبة الذي هو الأصل في عطف الجمل بحرف { ثم } .

وصدرت الجملة بحرف المفاجأة لأن الكون بشراً يظهر للناس فجأة بوضع الأجنة أو خروج الفراخ من البيض ، وما بين ذلك من الأطوار التي اقتضاها حرف المهلة هي أطوار خفية غير مشاهدة ؛ فكان الجمع بين حرف المهلة وحرف المفاجأة تنبيهاً على ذلك التطور العجيب . وحصل من المقارنة بين حرف المهلة وحرف المفاجأة شبه الطباق وإن كان مرجع كل من الحرفين غير مرجع الآخر .

والانتشار : الظهور على الأرض والتباعد بين الناس في الأعمال قال تعالى { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] .