يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ } يا محمد : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } وهذا خطاب للأحمر والأسود ، والعربي والعجمي ، { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } أي : جميعكم ، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين ، وأنه مبعوث إلى الناس كافة ، كما قال تعالى : { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] وقال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] وقال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } [ آل عمران : 20 ] والآيات في هذا كثيرة ، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر ، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، رسول الله إلى الناس كلهم .
قال البخاري ، رحمه الله ، في تفسير هذه الآية : حدثنا عبد الله ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر{[12245]} حدثني بسر{[12246]} ابن عبيد الله ، حدثني أبو إدريس الخولاني قال : سمعت أبا الدرداء ، رضي الله عنه ، يقول : كانت بين أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، محاورة ، فأغضب أبو بكر عمر ، فانصرف عمر عنه مغضبا ، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له ، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه ، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أبو الدرداء : ونحن عنده - فقال{[12247]} رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما صاحبكم هذا فقد غامر " - أي : غاضب وحاقد - قال : وندم عمر على ما كان منه ، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر - قال أبو الدرداء : وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول : والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟ إني قلت : يأيها الناس ، إني رسول الله إليكم جميعا ، فقلتم : كذبت وقال أبو بكر : صدقت " . انفرد به البخاري{[12248]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس [ رضي الله عنه ]{[12249]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي - ولا أقوله فخرًا : بعثت إلى الناس كافة : الأحمر والأسود ، ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي ، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا " {[12250]} إسناده جيد ، ولم يخرجوه .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بكر بن مضر ، عن أبي الهاد ، عن عمرو ابن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك ، قام من الليل يصلي ، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه{[12251]} يحرسونه ، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم : " لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي ، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة{[12252]} وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه ، ونصرت على العدو بالرعب ، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا ، وأحلت لي الغنائم آكلها{[12253]} وكان من قبلي يعظمون أكلها ، كانوا يحرقونها ، وجعلت لي الأرض مساجد{[12254]} وطهورًا ، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت ، وكان من قبلي يعظمون ذلك ، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم ، والخامسة هي ما هي ، قيل لي : سل ؛ فإن كل نبي قد سأل . فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة ، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله " {[12255]} إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه .
وقال أيضا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله{[12256]} صلى الله عليه وسلم قال : " من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني ، فلم يؤمن بي ، لم يدخل الجنة " {[12257]}
وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي رجل{[12258]} من هذه الأمة : يهودي ولا{[12259]} نصراني ، ثم لا يؤمن{[12260]} بي إلا دخل النار " {[12261]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو يونس - وهو سليم بن جبير - عن أبي هريرة ، عن رسول الله{[12262]} صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي أو نصراني ، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار " . تفرد به أحمد{[12263]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بُرْدَة ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسًا : بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل{[12264]} لمن كان قبلي ، ونصرت بالرعب شهرًا{[12265]} وأعطيت الشفاعة - وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة ، وإني قد اختبأت شفاعتي ، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا " {[12266]}
وهذا أيضا إسناد صحيح ، ولم أرهم خرجوه ، والله أعلم ، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا ، من حديث{[12267]} جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[12268]} يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة " {[12269]}
وقوله : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } صفة الله تعالى ، في قوله{[12270]} { رَسُولُ اللَّهِ } أي : الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه ، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة ، وله الحكم .
وقوله : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ } أخبرهم أنه رسول الله إليهم ، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به ، { النَّبِيِّ الأمِّيِّ } أي : الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة ، فإنه منعوت بذلك في كتبهم ؛ ولهذا قال : { النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي : يصدق قوله عمله ، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه { وَاتَّبِعُوهُ } أي : اسلكوا طريقه واقتفوا أثره ، { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : إلى الصراط المستقيم .
{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم } الخطاب عام ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى كافة الثقلين ، وسائر الرسل إلى أقوامهم . { جميعا } حال من إليكم . { الذي له ملك السماوات والأرض } صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه ، أو مدح منصوب أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره { لا إله إلا هو } وهو على الوجوه . الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإله لا غيره وفي : { يُحيى ويُميت } مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية . { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته } ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه . وقرئ " وكلمته " على إرادة الجنس أو القرآن ، أو عيسى تعريضا لليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه ، وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له . { واتبعوه لعلكم تهتدون } جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيها على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة .