السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (158)

ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبيّ الكريم حثاً على الإيمان وإيجاباً له على وجه يعلم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدّم زمانه أو تأخر قال تعالى :

{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم } الخطاب عام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى كافة الثقلين بل وإلى الملائكة قاله السبكي والبقاعيّ وغيرهما وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وإن خالف في ذلك بعضهم ، وأما سائر الرسل فمبعوثون إلى أقوامهم فقط لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طيبة مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوّي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه وأخبأت شفاعتي لأمتي } .

فإن قيل : كان آدم عليه السلام مبعوثاً إلى جميع أولاده ونوح عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم ؟ أجيب : بأنّ ذلك لم يكن لعموم رسالتهما بل للحصر المذكور فليس ذلك من باب عموم الرسالة ، وقوله : { جميعاً } حال من إليكم أي : إن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والإتباع لي وقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق وتغلغل في كل نفق ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا بحر ولا بر في مشارق الأرض ومغاربها إلا وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائله عنهم يوم القيامة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال : «أنا سيد الناس يوم القيامة » ، وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا مستشفعهم إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر ) ، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر ) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر ) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ) والفخر ادعاء العظمة والكبر والشرف أي : لا أقول تبجحاً ولكن شكراً وتحدّثاً بالنعمة وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته وبعده اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً وأما يوم الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه وما أحال بعض الأكابر على بعض إلا علما منهم بأن الختام يكون به ليكون أظهر للاعتراف بإمامته والانقياد لطاعته لأنّ المحيل على المحيل على الشيء محيل على ذلك والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم تظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى كافة الخلق فيظهر سر هذه الآية { الذين يتبعون الرسول } قال البقاعيّ : ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات ما يدل على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجنّ والملائكة أيد ذلك بقوله : { الذي له ملك السماوات والأرض } فيكون محله جرّاً على الوصف وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله : { إليكم جميعاً } لأنه متعلق المضاف إليه فهو كالمتقدّم عليه قال الزمخشريّ : والأحسن أن يكون محله نصباً بإضمار أعني وهذا الذي يسمى النصب على المدح ، قال البيضاوي : أو مبتدأ خبره { لا إله إلا هو } أي : فالكل منقادون لأمره خاضعون له ثم علل ذلك بقوله : { يحيي ويميت } أي : له هاتان الصفتان مختصاً بهما ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر ، قال البقاعيّ : وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أوّل الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة اه .

وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس : { إني رسول الله إليكم جميعاً } أمر الله تعالى جميع خلقه بالإيمان به وبرسوله بقوله : { فآمنوا بالله ورسوله } وذلك أن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عليه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله ثم وصفه تعالى بقوله : { النبيّ الأميّ } وتقدّم معناهما { الذي يؤمن بالله وكلماته } أي : بما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه وقال قتادة : المراد بكلماته القرآن ، وقال مجاهد : عيسى بن مريم لأنه خلق بقوله : كن فكان ولم يكن من نطفة تمنى ، ولهذا سمي كلمة الله وقيل : هو الكلمة التي تكون عنها عيسى وجميع خلقه وهي قوله : { كن } { واتبعوه } أي : واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه { لعلكم تهتدون } أي : لكي تهتدوا وترشدوا جعل تعالى رجاء الاهتداء أثر الإيمان والاتباع تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شريعته فهو بعد في خطيئة الضلالة .