اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (158)

قوله تعالى : { قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } الآية .

لمَّا بيَّن تعالى أنَّ من شُرُوطِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لأولئك المُتَّقِينَ ، كونهم مُتَّبِعين للرَّسُولِ ، حَقَّقَ في هذه الآية رسالته إلى كلِّ الخلق .

وقوله إلَيْكُمْ مُتعلِّقٌ ب " رَسُولُ " ، وجَمِيعاً حال من المجرورِ ب " إلى " .

فصل

هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى جميع الخَلْقِ .

وقالت طائفة من اليهُودِ يقال لهم العيسوية ، وهم أتباع عيسى الأصفهانيّ : إنَّ محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل وهذه الآية تبطلُ قولهم ؛ لأن قوله { يا أيها الناس } خطابٌ يتناولُ كلَّ النَّاسِ ، وقد أقرّوا بكونِهِ رسولاً حقّاً صادقاً وما كان كذلك امتنع الكذب عليه ، ووجب الجزمُ بكونه صادقاً في كلِّ ما يدَّعيه ، وقد ثبت بالتَّواتُرِ وبهذه الآية أنه كان يدَّعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق ؛ فوجب كونُه صادقاً في هذا القول .

فصل

هذه الآيةُ دلَّت على أن محمداً عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبعوثٌ إلى كل الخلق فهل شاركه في هذه الخصوصيَّةِ أحد من الأنبياء ؟ .

فقال بعضهم : نعم كان آدم عليه الصَّلاة والسَّلام مبعوثاً إلى جميع أولاده ، وأنَّ نوحاً لما خرج من السفينة كان مبعوثًا إلى الذين كانوا معه ، وهم جميع النَّاسِ في ذلك الوقت ، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " أعطيتُ خمْساً لَمْ يُعْطَهنَّ أحَدٌ من الأنبياءِ قَبْلِي " {[16884]}

المرَادُ أنَّ مجموعَ الخَمْسَةِ لم يحصل لأحدٍ سواه ، ولم يلزم من كون المجموع من خواصه عدم مشاركة غيره في آحاد أفرادها .

قوله : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } . يجوزُ فيه : الرَّفْعُ ، والنَّصْبُ ، والجَرُّ ، فالرَّفْعُ والنَّصْبُ على القطع كما تقدم [ الأعراف : 57 ] ، والجَرُّ من وجهين : إمَّا النَّعْتِ للجلالة ، وإمَّا البدلِ منها .

قال الزمخشريُّ{[16885]} : ويجوزُ أن يكون جَرّاً على الوصفِ ، وإن حيلَ بين الصِّفةِ والموصوف بقوله " إليْكُمْ جَمِيعاً " .

واستضعف أبُو البقاءِ{[16886]} هذا ووجه البدل ، فقال : ويَبْعُدُ أن يكون صفة لله أو بدلاً منه ، لما فيه من الفصل بينهما ب " إلَيْكُمْ " وبحالٍ ، وهو مُتعلِّقٌ ب " رَسُولُ " .

قوله { لا إله إِلاَّ هُوَ } لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإعراب ، إذ هي بدل من الصلةِ قبلها وفيها بيان لها ؛ لأنَّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقةِ ، وكذلك قوله " يُحْيي ويُمِيتُ " هي بيان لقوله لا إله إلاَّ هُوَ سِيقَتْ لبيان اختصاصه بالإلهيَّةِ ؛ لأنه يَقْدِرُ على الإحياء والإماتةِ غَيْرُهُ .

قاله الزمخشريُّ : وقال أبُو حيَّان{[16887]} : " وإبدالُ الجُمَلِ من الجُمَلِ غير المشتركة في عاملٍ لا نعرفه " .

فصل

وقال الحُوفيُّ : إن " يُحْيِي ويُمِيتُ " في موضع خبر لا إله .

قال : " لأنَّ الإله " في موضع رفع بالابتداء ، وإلاَّ هُوَ بدلٌ على الموضع .

قال : والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم اللَّهِ . ويعني بالجملةِ قوله : { لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } ويعني باسم الله ، أي : الضَّمير في لهُ مُلْكُ أي استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإلهيَّةِ .

وقال أبُو حيَّان : والأحْسَنُ أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب ، وإن كان متعلقاً بعضها ببعضٍ من حيث المعنى .

وقال في إعراب الحوفي المتقدم إنَّهُ متكلَّفٌ .

قوله : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } .

فصل

اعلم أنَّ الإيمان بالله أصل ، والإيمان بالنبوَّةِ والرسالة فرع عليه ، والأصلُ يجب تقديمه فلهذا بدأ بقوله : فآمِنُوا باللَّهِ ثم أتبعه بقوله : { وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } وهذا إشارة إلى ذِكْرِ المعجزاتِ الدالَّة على كونه نبيّاً حقاً ؛ لأنَّ معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت على نوعين .

الأول : المعجزاتُ التي ظهرت في ذاته المباركة وهو كونه أمِّياً ، وقد تقدم الكلامُ على كون هذه الصِّفَةِ معجزة .

الثاني : المعجزات الَّتي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وحنين الجذع ونحوها ، وهي تسمى بكلمات الله ، لأنَّهَا أمورٌ عظيمة . ألا ترى أن عيسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمّا كان حدوثُه أمراً عظيماً غريباً مخالفاً للعادة ، سمَّاهُ اللَّهُ كلمة ، فكذلك المعجزات لمَّا كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعُد تسميتُها كلمات ، وهذا هو المُرادُ بقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } .

وقرأ مجاهدٌ{[16888]} وعيسى وكلمته بالتَّوحيد ، والمرادُ بها الجِنسُ كقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - : " أصْدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ " ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً ، وقد تقدَّم .

قال الزمخشريُّ{[16889]} : فإن قلت : هَلاَّ قيل : فآمنوا باللَّه وبِي ، بعد قوله { يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } .

قلت : عدل عن الضمير ، إلى الاسم الظاهر ، لتَجْرِي عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه ، ولِمَا في طريق الالتفات من البلاغةِ ، وليُعْلِم أنَّ الذي يجبُ الإيمانُ به واتِّباعهُ ، هو هذا الشخص المستقل بأنه النَّبيُّ الأميُّ الذي يؤمنُ بالله وكلماته ، كائناً من كان ، أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة ، وتفادياً من العصبية لنفسه .

قوله : { واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .

وهذا الأمرُ يدلُّ على وجوب متابعةِ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام في كلِّ ما يأتي به قولاً كان أو فعلاً أو تركاً إلا ما خصه الدَّليل .

فصل

فإن قيل : إذا أتى الرَّسول بشيء فيحتمل أنه أتى به على سبيل الوُجوبِ ، ويحتمل الندب فعلى سبيل أنه أتى مندوباً ، فلو أتينا به على أنَّه واجب علينا ، كان ذلك تركاً لمتابعته والآية تدلُّ على وجوب المتابعةِ ، فثبت أنَّ فعل الرَّسُولِ لا يدُلُّ على الوجوب علينا .

فالجوابُ : أنَّ المتابعةَ في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع ؛ لأنَّ من أتى بفعل ثم إنَّ غيرهُ وافقه في ذلك الفعل ، قيل : إنَّهُ تابعهُ عليه ، ولوْ لَمْ يأتِ به ، قيل : إنه خالفه ، وإن كان كذلك ، ودلَّت الآية على وجوب المتابعة ؛ لزم أن يجب على الأمة متابعته .

بقي علينا أنَّا لا نعرف هل أتى به - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قاصداً الوجوب أو النَّدب ؟ .

فنقول : حال الدَّوَاعي والعزائم غير معلوم ، وحال الإتيان بالفعل الظاهر معلومٌ ؛ فوجب أن لا يُلتفتَ إلى حال العزائم والدَّواعي ؛ لأنَّها أمورٌ مخفية عَنَّا ، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظَّاهر ؛ لأنَّهُ من الأمور التي يمكن رعايتها .

وقد تقدَّم الكلامُ على لفظ لعلّ وأنَّها للتردي وهو في حق اللَّهِ تعالى محال ، فلا بد من تأويلها فيلتفت إليه .


[16884]:أخرجه البخاري (1/519) كتاب التيمم حديث (335) ومسلم (1/379) كتاب المساجد حديث 3/521 من حديث جابر وفي الباب عن جماعة من الصحابة خرجنا أحاديثهم في تعليقنا على "بداية المجتهد" لابن رشد.
[16885]:ينظر: تفسير الكشاف 2/166.
[16886]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/287.
[16887]:ينظر: البحر المحيط 4/404.
[16888]:ينظر/: المحرر الوجيز 2/465، والبحر المحيط 4/404.
[16889]:ينظر: تفسير الكشاف 2/167.