غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (158)

155

ثم أراد أن يحقق عموم رسالته إلى المكلفين فقال { قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً } وانتصابه على الحال من { إليكم } وفيه دليل على أن محمداً صلى الله عليه وآله مبعوث إلى الخلق كافة خلافاً لطائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أتباع عيسى الأصفهاني ، زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول صادق لكنه مبعوث إلى العرب خاصة وفساده ظاهر لأنه من المعلوم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي عموم الرسالة فإن كان رسولاً إلى العرب وإلى غيرهم .

وزعم بعض العلماء أنه عام دخله التخصيص لأنه غير مبعوث إلى غير المكلفين بقوله : صلى الله عليه وسلم : «رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق » وأيضاً يمكن وجود قوم في طرف من أطراف العمارة لم يصل إليهم خبر وجوده فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوّته . والجواب أن رفع القلم عن الأصناف الثلاثة أيضاً حكم عليهم بهذا الاعتبار يدخلون تحت الخطاب وإن وجود قوم كما زعمتم من المستبعدات فلا يستحق الالتفات إليه . قال بعض الأكابر : إن الآية وإن دلت على أنه صلى الله عليه وسلم مبعثوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء ما كان مبعوثاً إلى كلهم . وقد تمسك جمع من العلماء بالحديث المشهور : «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، وختم بي النبيون » ورد بأن مجموع هذه الأمور من خواصه لا كل واحد واحد ، وبأن آدم بعث إلى كل أولاده في ذلك الزمان فيكون مبعوثاً إلى كل الناس وقتئذ . ولا يخفى ضعف هذا الرد لأنا نعلم من دين محمد أنه خاتم النبيين وحده في رواية أخرى : «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي » وإذا كان بعض هذه الأمور من خواصه لزم أن يكون كل واحد منها كذلك . وأيضاً أن آدم لم يكن مبعوثاً إلى حواء لأنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل ولا تقرباً . ثم لما أمر رسول الله بأن يقول للناس أني رسول الله إليكم أتبعه ذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى وأنها لا تتم إلا بتقرير أصول أربعة : أوّلها إثبات أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً وأشار إليه بقوله { الذي له ملك السموات والأرض } إذ لو لم يكن للعالم مؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار لم يمكن القول ببعثة الرسول . ومحل { الذي } نصب أو رفع على المدح أو جر بدلاً أو وصفاً لله . وثانيها أن إله العالم واحد وذلك قوله { لا إله إلا هو } إذ لو فرض إلهان لم يكن عبادة أحدهما أولى من عبادة الآخر . وثالثها أنه تعالى قادر على الخير والشر والبعث والحساب كما قال { يحيى ويميت } وإنما لم يوسط العاطف بين هذه الجمل لأن كل واحد منها مبينة لما قبلها ، وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت أصل رابع وهو أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف . أما بالأصل الأوّل والثاني فلأنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ولاسيما إذا كان فرداً منزهاً عن الشريك والنظير مستقلاً بالأمر والنهي . وأما الأصل الثالث فلأنه يحسن من القادر تكليف المكلف بنوع من طاعته إيصالاً له إلى الجزاء إلى لذة الجزاء ، فإن تحصيل لذة الأجر بدون كونه أجر ممتنع وأشار إلى هذا الأصل الرابع بقوله { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي } اقتصر من الصفات المذكورة هاهنا على الأمية لأنها أجل الأوصاف وأدلها على حقيته ، وذلك أنه لم يتفق له مطالعة كتاب ولا مصاحبة معلم لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبة طويلة يمكن التعلم فيها ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين فليس ذلك إلا بتأييد سماوي وفيض إلهي . ثم وصفه بقوله { الذي يؤمن بالله وكلماته } لأن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون ممن آمن بالله وبكتبه . وإنما لم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قول { إني رسول الله } بل عدل إلى المظهر ليمكن أن يجري عليه الصفات المذكورة . ولما في طريقة الالتفات من البلاغة ، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً من كان ، أنا أو غيري إظهاراً للنصفة واحترازاً عن العصبية . واعلم أن الكمالات إما نظرية وأشار إليها بقوله { فآمنوا بالله } وإما عملية وإليها الإشارة بقوله { واتبعوه } والأولى إشارة إلى التكاليف المستفادة من أقواله ، والثانية إشارة إلى المستفادة من أفعاله ، فإن كل فعل يصدر عنه وقد واظب عليه فلا بد أن يكون جانب فعله ذلك الفعل جانب فعله راجحاً على تركه . ثم إن ظاهر الأمر للوجوب فيجب علينا اتباعه وإن كان ذلك مندوباً له إلا أن يدل دليل منفصل على أن ذلك الفعل من خصائصه . ومعنى الترجي في { لعلكم تهتدون } قد مر في نظائره ولاسيما في أوّل البقرة في قوله { لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] .