تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ} (128)

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } ، أي : معهم بتأييده ونصره ومعونته وهذه معية خاصة ، كقوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } [ الأنفال : 12 ] ، وقوله لموسى وهارون : { لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار : { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم ، كقوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الحديد : 4 ] ، وكقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [ المجادلة : 7 ] ، وكما قال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ] } [ يونس : 61 ] . {[16768]}

ومعنى : { الَّذِينَ اتَّقَوْا } ، أي : تركوا المحرمات ، { وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } ، أي : فعلوا الطاعات ، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم ، وينصرهم ويؤيدهم ، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا مِسْعر ، عن ابن عون ، عن محمد بن حاطب قال : كان عثمان ، رضي الله عنه ، من الذين آمنوا ، والذين اتقوا ، والذين هم محسنون .

[ آخر تفسير سورة النحل ولله الحمد أجمعه والمنة ، وبه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل ]{[16769]} .


[16768]:زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية".
[16769]:ما بين المعقوفين من "هـ".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ} (128)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إن الله مع الذين اتقوا}، الشرك في العون والنصر لهم،

{والذين هم محسنون}، يعنى: في إيمانهم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره "إِنَّ اللَّهَ "يا محمد "مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا" الله في محارمه فاجتنبوها، وخافوا عقابه عليها، فأحجموا عن التقدّم عليها، "وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" يقول: وهو مع الذين يحسنون رعاية فرائضه، والقيام بحقوقه، ولزوم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إن الله مع الذين اتقوا}، مخالفة الله ورسوله بالنصر لهم والعون، فإن الله ناصركم ومعينكم عليهم.

{والذين هم محسنون}، في العمل والتوحيد، أو يقول: إن الله مع الذين اتقوا محارم الله وارتكاب مناهيه بالنصر لهم والمعونة، {والذين هم محسنون}، إلى نعم الله بالقيام بالشكر لها، والله تعالى أعلم...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إن الله معهم بالنصرة، ويحيطهم بالإحسان والبسطة. "الذين اتقوا"، رؤيَةَ النصْرةِ مِنْ غيره، والذين هم أصحاب التبري من الحَوْلِ والقوة. والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا}، أي: هو وليّ الذين اجتنبوا المعاصي، {و} ولي {الذين هُمْ مُّحْسِنُونَ} في أعمالهم. وعن هرم ابن حيان أنه قيل له حين احتضر: أوص، فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي، وأوصيكم بخواتم سورة النحل.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{مع الذين}، أي: بالنصر والمعونة والتأييد، و {اتقوا}، يريد المعاصي، و {محسنون}، معناه يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المرتبة الرابعة: قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وفي المرتبة الثالثة: أمرنا بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال: {إن الله مع الذين اتقوا} عن استيفاء الزيادة: {والذين هم محسنون} في ترك أصل الانتقام، فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين. ومن وقف على هذا الترتيب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة، ولما قال الله لرسوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} ذكر هذه المراتب الأربعة، تنبيها على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه، وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له.

المسألة الثالثة: قوله: {إن الله مع الذين اتقوا} معيته بالرحمة والفضل والرتبة، {الذين اتقوا} إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى،

{والذين هم محسنون} إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، وعبر عنه بعض المشايخ فقال: كمال الطريق صدق مع الحق. وخلق مع الخلق، وقال الحكماء: كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إن الله}، أي: الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه، {مع الذين اتقوا}، أي: وجد منهم الخوف من الله تعالى، فكانوا في أول منازل التقوى، وهو مع المتقين الذين كانوا في النهاية منها، فعدلوا في أفعالهم من التوحيد وغيره عملاً بأمر الله في الكتاب الذي هو تبيان لكل شيء، وهو مع الذين أحسنوا وكانوا في أول درجات الإحسان، {والذين هم}، أي: بضمائرهم وظواهرهم، {محسنون}، أي: صار الإحسان صفة لهم غير منفكة عنهم، فهم في حضرات الرحمن، وأنت رأس المتقين المحسنين، فالله معك، ومن كان الله معه كان غالباً، وصفقته رابحة، وحالته صالحة، وأمره عال، وضده في أسوأ الأحوال، فلا تستعجلوا قلقاً كما استعجل الكفار استهزاء، تخلقاً في التأني والحلم بصفة من تنزه عن نقص الاستعجال، وتعالى عن ادعاء الأكفاء والأمثال، فقد عانق آخرها أولها، ووافق مقطعها مطلعها، وآخرها احتباك: ذكر {الذين اتقوا} أولاً دليلاً على حذف {الذين أحسنوا} ثانياً، {والمحسنين} ثانياً دليلاً على حذف المتقين أولاً -والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا}، تعليلٌ بما سبق من الأمر والنهي، والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبها شائبةُ شيءٍ من الجزَع والحزنِ وضِيق الصدورِ، وما يُشعر به دخولُ كلمة مع من متبوعيّة المتقين إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتقوى، وكذا الحالُ في قوله سبحانه: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين}، ونظائرِهما كافة، والمرادُ بالتقوى المرتبةُ الثالثة منه الجامعة لما تحتها من مرتبة التوقي عن الشرك، ومرتبةِ التجنّب عن كل ما يؤثِمُ من فعل وترك، أعني التنزّهَ عن كل ما يشغَلُ سِرَّه عن الحق والتبتّلِ إليه بشراشر نفسِه، وهو التقوى الحقيقيُّ المُورِث لولايته تعالى المقرونة ببشارة قوله سبحانه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، والمعنى: أن الله وليُّ الذين تبتلوا إليه بالكلية وتنزّهوا عن كل ما يشغل سرَّهم عنه، فلم يخطُرْ ببالهم شيءٌ من مطلوب أو محذور، فضلاً عن الحزن بفواته أو الخوفِ من وقوعه، وهو المعنيُّ بما به الصبرُ المأمورُ به حسبما أشير إليه، وبه يحصل التقريب ويتم التعليل كما في قوله تعالى: {فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ}، على أحد التفسيرين كما حُقق في مقامه وإلا فمجردُ التوقي عن المعاصي لا يكون مداراً لشيء من العزائم المرخصِ في تركها فكيف بالصبر المشارِ إليه ورديفيه، وإنما مدارُه المعنى المذكورُ، فكأنه قيل: إن الله مع الذين صبروا، وإنما أوثر ما عليه النظمُ الكريم مبالغةً في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوتِ الجليلة وروادفِه كما أن قوله تعالى: {والذين هُم مُّحْسِنُونَ}، للإشعار بأنه من باب الإحسانِ الذي يتنافس فيه المتنافسون على ما فُصل ذلك حيث قيل: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}، وقد نُبّه على أن كلاًّ من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان في قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}، وحقيقةُ الإحسان الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتيِّ، وقد فسّره عليه الصلاة والسلام بقوله: « أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك»، وتكريرُ الموصولِ للإيذان بكفاية كلَ من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمةً للأخرى،... وتقديمُ التقوى على الإحسان لما أن التخليةَ متقدمة على التحلية، والمرادُ بالموصولَين إما جنسُ المتقين والمحسنين وهو عليه الصلاة والسلام داخلٌ في زمرتهم دخولاً أولياً، وإما هو عليه الصلاة والسلام ومن شايعه، عبّر عنهم بذلك مدحاً لهم وثناءً عليهم بالنعتين الجميلين، وفيه رمزٌ إلى أن صنيعَه عليه الصلاة والسلام مستتبِعٌ لاهتداء الأمةِ به،...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

[ثم] ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون. هذا هو دستور الدعوة إلى الله كما رسمه الله. والنصر مرهون بإتباعه كما وعد الله. ومن أصدق من الله؟...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تعليل للأمر بالاقتصار على قدر الجرم في العقوبة وللترغيب في الصبر على الأذى والعفو عن المعتدين ولتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصبر والاستعانة على تحصيله بمعونة الله تعالى ولصرف الكدر عن نفسه من جراء أعمال الذين لم يؤمنوا به.

علل ذلك كله بأن الله مع الذين يتقونه فيقفون عندما حد لهم ومع المحسنين. والمعية هنا مجاز في التأييد والنصر

وأتي في جانب التقوى بصلة فعلية ماضية للإشارة إلى لزوم حصولها وتقررها من قبل لأنها من لوازم الإيمان لأن التقوى آيلة إلى أداء الواجب وهو حق على المكلف. ولذلك أمر فيها بالاقتصار على قدر الذنب

وأتي في جانب الإحسان بالجملة الاسمية للإشارة إلى كون الإحسان ثابتا لهم دائما معهم لأن الإحسان فضيلة فبصاحبه حاجة إلى رسوخه من نفسه وتمكنه.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ} وأخلصوا له القول والعمل، والتزموا بحركة العقيدة في الوجدان، فحوّلوها إلى واقع على مستوى الأعمال والأقوال والمواقف والعلاقات، وخافوا الله في أنفسهم وفي الناس، في السرّ والعلن، وانطلقوا مع التقوى، في خط مستقيم يتحرك في حدود الله، ولا يتجاوزها، {وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} في الخط العملي للحياة، الذي يحوّل الحياة إلى إحسانٍ روحيٍّ وعمليٍّ يفتح القلوب على الخير، لما يصنعه من أجواء الخير، وبما يثيره من مشاعر وأحاسيس، ما يدفع بالإنسان إلى الارتفاع عن كثير من نوازع الشر التي تقوده إلى الانحراف والضلال. وتلك هي مهمة التقوى في الواقع الإنساني، من خلال سلوك المؤمن في المجتمع، وتلك هي مهمة الإحسان في تلك الساحة، أن تحقق الانضباط الذي يمنع الزلل، والانفتاح الذي يمنع الانحراف ويزيل التعقيد.

وفقنا الله للسير على خط التقوى والإحسان، ورزقنا الله الصبر على التحديات التي تواجهنا كمسلمين، وكعاملين في خط الدعوة إلى الإسلام، وهدانا إلى صراطه المستقيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.