مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ} (128)

المرتبة الرابعة : قوله : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز ، وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله : { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } وفي المرتبة الثالثة : أمرنا بالصبر على سبيل الجزم ، وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال : { إن الله مع الذين اتقوا } عن استيفاء الزيادة : { والذين هم محسنون } في ترك أصل الانتقام ، فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين . ومن وقف على هذا الترتيب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة ، ولما قال الله لرسوله : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } ذكر هذه المراتب الأربعة ، تنبيها على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه ، وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له .

المسألة الثالثة : قوله : { إن الله مع الذين اتقوا } معيته بالرحمة والفضل والرتبة ، وقوله : { الذين اتقوا } إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى ، وقوله : { والذين هم محسنون } إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، وذلك يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ، وعبر عنه بعض المشايخ فقال : كمال الطريق صدق مع الحق . وخلق مع الخلق ، وقال الحكماء : كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وعن هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة أوص ، فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي ، ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل .

المسألة الرابعة : قال بعضهم : إن قوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } منسوخ بآية السيف ، وهذا في غاية البعد ، لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى ، وترك التعدي وطلب الزيادة ، ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف ، وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ ، ولا أرى فيه فائدة والله أعلم بالصواب .

قال المصنف رحمه الله : تم تفسير هذه السورة ليلة الثلاثاء بعد العشاء الآخرة بزمان معتدل ، وقال رحمه الله : الحق عزيز والطريق بعيد . والمركب ضعيف . والقرب بعد . والوصل هجر . والحقائق مصونة . والمعاني في غيب الغيب محصونة . والأسرار فيما وراء العز مخزونة ، وبيد الخلق القيل والقال . والكمال ليس إلا لله ذي الإكرام والجلال ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم .