وقوله : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ } :إخبار عن خَدَمهم وحَشَمهم في الجنة كأنهم اللؤلؤ الرطب ، المكنون في حسنهم وبهائهم {[27511]} ونظافتهم وحسن ملابسهم ، كما قال { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } [ الواقعة : 17 ، 18 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لّهُمْ كَأَنّهُمْ لُؤْلُؤٌ مّكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويطوف على هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في الجنة غلمان لهم ، كأنهم لؤلؤ في بياضه وصفائه مكنون ، يعني : مصون في كنّ ، فهو أنقى له ، وأصفى لبياضه . وإنما عنى بذلك أن هؤلاء الغلمان يطوفون على هؤلاء المؤمنين في الجنة بكؤوس الشراب التي وصف جلّ ثناؤه صفتها . وقد :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمان لَهُمْ كأنّهُمْ لُؤلؤٌ مَكْنُونٌ ذُكر لنا أن رجلاً قال : يا نبيّ الله هذا الخادم ، فكيف المخدوم ؟ قال : «والذي نفس محمد بيده ، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » .
وحدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : كأنّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ قال : بلغني أنه قيل : يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ ، فكيف المخدوم ؟ قال : «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّ فَضْلَ ما بَيْنَهُمَا كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ على النجوم » .
عطف على جملة { يتنازعون فيها كأساً } [ الطور : 23 ] فهو من تمامه وواقع موقع الحال مثله ، وجيء به في صيغة المضارع للدلالة على التجدد والتكرر ، أي ذلك لا ينقطع بخلاف لذات الدنيا فإنها لا بد لها من الانقطاع بنِهايات تنتهي إليها فتُكرَّه لأصحابها الزيادةُ منها مثللِ الغَوْل ، والإِطباق ، ووجع الأمعاء في شرب الخمر ومثل الشبع في تناول الطعام وغير ذلك من كل ما يورث العجز عن الازدياد عن اللذة ويجعل الازدياد ألماً .
ولم يستثن من ذلك إلا لذات المعارف ولذات المناظر الحسنة والجمال .
ولما أشعر فعل { يطوف } بأن الغلمان يناولونهم ما فيه لذاتهم كان مشعراً بتجدد المناولة وتجدد الطواف وقد صار كل ذلك لذة لا سآمة منها .
والطواف : مشي متكرر ذهاباً ورجوعاً وأكثر ما يكون على استدارة ، ومنه طواف الكعبة ، وأهل الجاهلية بالأصنام ولأجله سمي الصنم دواراً لأنهم يدورون به . وسمي مشي الغلماء بينهم طوافاً لأن شأن مجالس الأحبة والأصدقاء أن تكون حلقاً ودوائر ليستووا في مرآهم كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الصافات ( 44 ) { على سرر متقابلين } ومنه جعلت مجالس الدروس حلقاً وكانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً . وقد أطلق على مناولة الخمر إدارة فقيل : أدارت الحارثة الخمر ، وهذا الذي يناول الخمر المدير .
وترك ذكر متعلق { يطوف } لظهوره من قوله : { يتنازعون فيها كأساً } وقوله : { وأمددناهم بفاكهة } [ الطور : 22 ] ودل عليه قوله تعالى : { يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب } [ الزخرف : 71 ] وقوله : { يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين } [ الصافات : 45 ، 46 ] فلما تقدم ذكر ما شأنه أن يطاف به هنا ترك ذكره بعد فعل { يطاف } بخلاف ما في الآيتين الأخريين .
والغلمان : جمع غلام ، وحقيقته من كان في سنّ يقارب البلوغ أو يبلغه ، ويطلق على الخادم لأنهم كانوا أكثر ما يتخذون خَدمهم من الصغار لعدم الكلفة في حركاتهم وعدم استثقال تكليفهم ، وأكثر ما يكونون من العبيد ومثله إطلاق الوليدة على الأمة الفتية كأنها قريبة عهد بولادة أمها .
فمعنى قوله : { غلمان لهم } : خدمة لهم . وعبر عنهم بالتنكير وتعليق لام الملك بضمير { الذين آمنوا } دون الإِضافة التي هي على تقدير اللام لما في الإِضافة من معنى تعريف المضاف بالانتساب إلى المضاف إليه عند السامع من قَبل . وليس هؤلاء الغلمان بمملوكين للمؤمنين ولكنهم مخلوقون لخدمتهم خلقهم الله لأجلهم في الجنة قال تعالى : { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } [ الإنسان : 19 ] وهذا على نحو قوله تعالى : { بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد } [ الإسراء : 5 ] أي صنف من عبادنا غير معروفين للناس .
وشبهوا باللؤلؤ المكنون في حسن المرأى . واللؤلؤ : الدُرّ . والمكنون : المخزون لنفاسته على أربابه فلا يتحلى به إلا في المحافل والمواكب فلذلك يبقى على لمعانه وبياضه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويطوف عليهم غلمان لهم} لا يكبرون أبدا {كأنهم لؤلؤ مكنون} يقول: كأنهم في الحسن والبياض مثل اللؤلؤ المكنون في الصدف لم تمسسه الأيدي، ولم تره الأعين، ولم يخطر على قلب بشر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويطوف على هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في الجنة غلمان لهم، كأنهم لؤلؤ في بياضه وصفائه" مكنون"، يعني: مصون في كنّ، فهو أنقى له، وأصفى لبياضه. وإنما عنى بذلك أن هؤلاء الغلمان يطوفون على هؤلاء المؤمنين في الجنة بكؤوس الشراب التي وصف جلّ ثناؤه صفتها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ويطوف عليه غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون} يرغّبهم فيها في ما ترغب إليه أنفسهم في الدنيا من الخدم والفواكه والبُسط ليطلبوها، والله أعلم...
{ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون} أي بالكؤوس... {لهم} أي ملكهم إعلاما لهم بقدرتهم على التصرف فيهم بالأمر والنهي والاستخدام... {كأنهم لؤلؤ} أي في الصفاء، و {مكنون} ليفيد زيادة في صفاء ألوانهم أو لبيان أنهم كالمخدرات لا بروز لهم ولا خروج من عندهم فهم في أكنافهم...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
وهذا تقريب للأفهام، وإلاَّ فجمال أهلِ الجَنَّةِ أَعْظَمُ من هذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ولا يعظم إلا بخدم وسقاة قال: {ويطوف عليهم} أي بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف {غلمان} ولما كان أحب ما إلى الإنسان ما يختص به قال: {لهم} ولم يضفهم لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعاً، وأفاد التنكير أن كل من دخل الجنة وجد له خدماً لم يعرفهم قبل ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في حين يقوم على خدمتهم ويطوف بالكأس عليهم غلمان صباح أبرياء، فيهم نظافة، وفيهم صيانة، وفيهم نداوة: (كأنهم لؤلؤ مكنون) مما يضاعف إيناس المجلس اللطيف في الجوارح والقلوب..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والطواف: مشي متكرر ذهاباً ورجوعاً وأكثر ما يكون على استدارة، ومنه طواف الكعبة...
وسمي مشي الغلمان بينهم طوافاً لأن شأن مجالس الأحبة والأصدقاء أن تكون حلقاً ودوائر ليستووا في مرآهم كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الصافات (44) {على سرر متقابلين} ومنه جعلت مجالس الدروس حلقاً وكانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً. وقد أطلق على مناولة الخمر إدارة فقيل: أدارت الحارثة الخمر، وهذا الذي يناول الخمر المدير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنّة إلى الخدمة، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه، إلاّ أنّ هذا بنفسه إكرام أو احترام آخر لأهل الجنّة!