تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (74)

لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا ، عطف بذكر ما لهم في الآخرة ، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان ، كما تقدم في أول السورة ، وأنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت ، وبالرزق الكريم ، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف ، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه .

ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [ التوبة : 100 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] وفي الحديث المتفق عليه ، بل المتواتر من طرق صحيحة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " ، وفي الحديث الآخر : " من أحب قوما حُشر معهُم " {[13215]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة " . قال شريك : فحدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن جرير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

تفرد به أحمد من هذين الوجهين{[13216]}

وأما قوله تعالى : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } أي : في حكم الله ، وليس المراد بقوله : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة ، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل يُدْلون بوارث ، كالخالة ، والخال ، والعمة ، وأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات . كما نص ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة وغير واحد : على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أو لا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص . ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصِيَّة لوارث " ، قالوا : فلو كان ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا ، والله أعلم .


[13215]:جاء من حديث أبي قرصافة وجابر، أما حديث جابر فرواه الطبراني في المعجم الكبير (3/19) من طريق زياد عن عزة بنت عياض عن أبي قرصافة مرفوعا بلفظ: "من أحب قوما حشره الله في زمرتهم"، وفي إسناده من لا يعرف. رواه الخطيب في تاريخه (5/196) من طريق إسماعيل بن يحيى عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر مرفوعا بلفظ: "من أحب قوما على أعمالهم. حشر يوم القيامة في زمرتهم، فحوسب بحسابهم وإن لم يعمل أعمالهم" وإسماعيل بن يحيى، ضعيف.
[13216]:المسند (4/343).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (74)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُولََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : وَالّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ والّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم ونصروا دين الله ، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقّا ، لا من آمن ولم يهاجر دار الشرك وأقام بين أظهر أهل الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوّهم . لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول : لهم ستر من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنها ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يقول : لهم في الجنة طعم ومشرب هنيّ كريم ، لا يتغير في أجوافهم فيصير نَجْوا ، ولكنه يصير رشحا كرشح المسك . وهذه الاَية تنبىء عن صحة ما قلنا أن معنى قول الله : بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ في هذه الاَية ، وقوله : ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إنما هو النصرة والمعونة دون الميراث لأنه جل ثناؤه عقب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده دون من لم يهاجر بقوله : وَالّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ والّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا . . . الاَية ، ولو كان مرادا بالاَيات قبل ذلك الدلالة على حكم ميراثهم لم يكن عقيب ذلك إلا الحثّ على مضيّ الميراث على ما أمر ، وفي صحة ذلك كذلك الدليل الواضح على أن لا ناسخ في هذه الاَيات لشيء ولا منسوخ .