لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{إِذۡ تَقُولُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ أَلَن يَكۡفِيَكُمۡ أَن يُمِدَّكُمۡ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُنزَلِينَ} (124)

+++قوله عز وجل : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } اختلف المفسرون في أن هذا الوعد بإنزال الملائكة هل حصل يوم بدر أو يوم أحد على قولين أحدهما أنه كان يوم بدر . قال قتادة : كان هذا يوم بدر أمدهم الله بألف من الملائكة كما قال : إن تستغيثون ربكم فاستجاب لكم : { أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر ههنا { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } فصيروا يوم بدر وتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد . قال ابن عباس : لم تقاتل الملائكة في معركة إلاّ يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً أو مدداً ، وقال الحسن : هؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وقال الشعبي : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى ألن يكفيكم إلى قوله مسومين فبلغ كرزاً الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدهم فلم يمدهم الله أيضاً بالخمسة آلاف وكانوا قد أمدوا بألف من الملائكة ، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : " هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب " واحتج لصحة هذا القول أيضاً بأن الله تعالى قال قبل هذه الآية ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وظاهر هذا يقتضي أن الله نصرهم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف ولأن العدد والعدد كانت يوم بدر قليلة وكان الاحتياج إلى الإمداد أكثر . القول الثاني إن هذا الوعد بإنزال الملائكة كان يوم أحد وهو قول عكرمة والضحاك ومقاتل . قال عمير بن إسحاق : لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فني النبل أتاه به فنثره وقال ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف ( ق ) عن سعد بن أبي وقاص قال : " رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ، ولا بعد يعني جبريل وميكائيل " واحتج لصحة هذا القول بأن المدد كان يوم بدر بألف من الملائكة كما نص عليه في سورة الإنفاق ولم يكن بثلاثة آلاف ولا بخمسة آلاف كما هنا وأيضاً أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً أو ما يقرب منهم وكان المسلمون على الثلث من ذلك فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر فأنزل الله يوم بدر ألفاً من الملائكة في مقابلة عدد الكفار فوقع النصر يومئذٍ للمسلمين والهزيمة للكفار ، وكان عدد المسلمين يوم أحد ألفاً وعدد الكفار ثلاثة آلاف فناسب أن يكون المدد يومئذٍ للمسلمين ثلاثة آلاف من الملائكة ليكون ذلك مقابلاً لعدد الكفار كما في يوم بدر . وأجيب عن الاحتجاج الأول لهذا القول بأن الله تعالى أمدهم يوم بدر بألف كما ذكر في سورة الأنفال ثم لما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمداد كرز لكفار قريش شق عليهم وعدوا بأن يمدوا بثلاثة آلاف وبخمسة آلاف لتقوى قلوبهم بذلك . وأجيب عن الثاني وهو أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً وفي يوم أحد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف بأن هذا تقريب حسن ولله أن يزيد ما شاء في أي وقت شاء . ولهذا قال عكرمة في قوله تعالى : { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا } قال يوم بدر قال ولم يصبروا ولم يتقوا يوم أحد فلم يمدوا ولو أمدوا لم يهزموا يومئذٍ وقيل لم يصبروا ولم يتقوا إلاّ في يوم الأحزاب فأمدهم الله بالملائكة حتى حاصروا قريظة ( ق ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : " لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال : قد وضعت السلاح والله ما وضعناه أخرج إليهم قال : فإلى أين ؟ قال ههنا وأشار إلى بني قريظة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ( ق ) عن أنس رضي الله عنه قال : " كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وقال عبد الله بن أبي أوفى كنا محاصرين قريظة والنضير ما شاء الله فلم يفتح علينا فرجعنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال : أوضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذٍ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحاً يسيراً " وقال ابن جرير الطبري : وأولى الأقوال بالصواب أن الله تعالى أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة }

فوعدهم بثلاثة آلاف من الملائكة مدداً لهم ثم وعدهم بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بهم ولا على أنهم لم يمدوا بهم فقد يجوز أن الله أمدهم وقد يجوز أن لا يكون أمدهم ولا يثبت ذلك إلاّ بنص تقوم به الحجة في ذلك . وقد ثبت بنص القرآن أنهم أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة كما في سورة الأنفال وأما يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها بأنهم أمدوا وذلك أنهم لو أمدوا لم ينهزموا ولم ينل منهم ما نيل منهم . فإن قلت فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في يوم أحد وأنه رأى ملكين عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله قلت إنما كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لأنه صبر ولم ينهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد . وأما التفسير فقوله تعالى : إذ تقول للمؤمنين فعلى قول من قال : إن هذا كان يوم بدر . قال نظم الآية ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين ومن قال هذا يوم أحد يقول نظم الآية إن الله ذكر قصة أحد ثم أتبعه بقوله : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } فكذلك هو قادر أن ينصركم في سائر المواطن ثم رجع إلى قصة أحد فقال تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم } ومعنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر مع بلوغ المراد أن يمدكم ربكم . الإمداد إعانة الجيش فما كان على جهة القوة والإعانة يقال أمده إمداداً وما كان على جهة الزيادة يقال . فيه مده مداً ، وقيل المد في الشر والإمداد في الخير بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين إنما وعدهم الله بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويثقوا قلوبهم ويثقوا بنصر الله ويعزموا على الثبات .