ثم قال تعالى { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } .
المسألة الأولى : اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر ، أو يوم أحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في { إذ } فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في { إذ } قوله { نصركم الله } [ آل عمران : 123 ] والتقدير : إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين ، وإن قلنا إنه حصل يوم أحد ، كان ذلك بدلا ثانيا من قوله { وإذ غدوت } .
القول الأول : أنه يوم أحد ، وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق ، والحجة عليه من وجوه :
الحجة الأولى : أن يوم بدر إنما أمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة } [ الأنفال : 9 ] فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر ؟ .
الحجة الثانية : أن الكفار كانوا يوم بدر ألفا أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفا من الملائكة ، فصار عدد الكفار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفا ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، كما في يوم بدر ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلا على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم ، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد .
الحجة الثالثة : أنه تعالى قال في هذه الآية { ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } [ آل عمران : 125 ] والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء .
فإن قيل : لو جرى قوله تعالى : { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة } في يوم أحد ، ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب .
والجواب عنه من وجهين الأول : أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم أنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم بل خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد ، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد ، فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط .
الوجه الثاني : في الجواب : لا نسلم أن الملائكة ما نزلت ، روى الواقدي عن مجاهد أنه قال : حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك أمد به ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : كنت أرمي السهم يومئذ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه ، فظننت أنه ملك ، فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه .
إذا عرفت هذا فنقول : نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد ، ثم قال : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع ، ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة } .
القول الثاني : أن هذا الوعد كان يوم بدر ، وهو قول أكثر المفسرين ، واحتجوا على صحته بوجوه .
الحجة الأولى : أن الله تعالى قال : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } [ آل عمران : 123 ] { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم } كذا وكذا ، فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام ، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر .
الحجة الثانية : أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر ، فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى .
الحجة الثالثة : أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقا غير مشروط بشرط ، فوجب أن يحصل ، وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أحد ، وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ولم تحصل يوم أحد ، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا :
أما الحجة الأولى : وهي قولكم : الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة .
فالجواب عنها : من وجهين الأول : أنه تعالى أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى ، ثم قال : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى ، ثم قال لهم : إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف ، وهو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : « أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة » .
الوجه الثاني في الجواب : أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال ، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد ، بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش ، فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف .
وأما الحجة الثانية : وهي قولكم : إن الكفار كانوا يوم بدر ألفا فأنزل الله ألفا من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف .
فالجواب : إنه تقريب حسن ، ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك ، بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد .
وأما الحجة الثالثة : وهي التمسك بقوله { ويأتوكم من فورهم } [ آل عمران : 125 ] .
فالجواب عنه : أن المشركين لما سمعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى : أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين ، والله اعلم بمراده .
المسألة الثانية : اختلفوا في عدد الملائكة ، وضبط الأقوال فيها أن من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد ، فقالوا : لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه ، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم ، فلا بد من التغاير وهو ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد ، أما على تقدير الأول : فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذكر الألف ، وذكر ثلاثة آلاف ، وذكر خمسة آلاف ، والمجموع تسعة آلاف ، وإن حملناها على قصة أحد ، فليس فيها ذكر الألف ، بل فيها ذكر ثلاثة آلاف ، وخمسة آلاف ، والمجموع : ثمانية آلاف ، وأما على التقدير الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد فقالوا : عدد الملائكة خمسة آلاف ، ثم ضم إليها ألفان آخران ، فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف ، ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة آلاف ، وقد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل : إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم : ألن يكفيكم يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فالله تعالى يمدكم أيضا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، ثم إن المشركين ما جاءهم المدد ، فكذا ههنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين فهذه وجوه كلها محتملة ، والله أعلم بمراده .
المسألة الثالثة : أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون ، وهذا قول الأكثرين ، وأما أبو بكر الأصم ، فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، واحتج عليه بوجوه :
الحجة الأولى : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض ، ومن المشهور أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة ، ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها ، فإذا حضر هو يوم بدر ، فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ؟ ثم بتقدير حضوره ، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟ .
الحجة الثانية : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة .
الحجة الثالثة : الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس ، فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف ، أو أكثر ، ولم يقل أحد بذلك ، ولأن هذا على خلاف قوله تعالى : { ويقللكم في أعينهم } [ الأنفال : 44 ] وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك البتة .
وأما القسم الثاني : وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير : إذا حاربوا وحزوا الرؤوس ، ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس ، فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحدا من الفاعلين ، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات ، وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافرا متمردا ، ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضا .
الحجة الرابعة : أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا ، إما أن يقال : إنهم كانوا أجساما كثيفة أو لطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم ، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك ، وإن كانوا أجساما لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة ، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه .
واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوة ، فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات ، فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر ، روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ، ويقولون : لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها بكمال قدرة الله تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادرا على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزها عن الحاجات .
المسألة الرابعة : اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة قال بعضهم : بالقتال مع المؤمنين ، وقال بعضهم : بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار ، والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافيا في تقوية القلب ، وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام .
المسألة الخامسة : قوله تعالى : { ألن يكفيكم } معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر ، يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته ، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال قال المفضل : ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده ، وما كان على جهة الزيادة قيل فيه : مده يمده ومنه قوله { والبحر يمده } [ لقمان : 27 ] .
المسألة السادسة : قرأ ابن عامر { منزلين } مشدد الزاي مفتوحة على التكثير ، والباقون بفتح الزاي مخففة ، وهما لغتان .
المسألة السابعة : قال صاحب «الكشاف » : إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله ومعنى { ألن يكفيكم } إنكار أن لا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء بلن التي هي لتأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم كالآيسين من النصر .