الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِذۡ تَقُولُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ أَلَن يَكۡفِيَكُمۡ أَن يُمِدَّكُمۡ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُنزَلِينَ} (124)

قوله تعالى : { إِذْ تَقُولُ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن هذا الظرفُ بدلٌ من قولِه : " إذ هَمَّتْ " . الثاني : أنه منصوبٌ ب " نصركم " . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار " اذكر " ، وهل هذه الجملةُ من تمام قصة بدر وهو قول الجمهور فلا اعتراضَ في هذا الكلام ، أو من تمام أُحُد ، فيكون قولُه { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ } مُعْترضاً بين الكلامين ؟ خلافٌ مشهور .

قوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فاعلُ " ألن يكفيكم " أي : ألن يكفيَكم إمدادُ ربكم . والهمزةُ لَمَّا دَخَلَتْ على النفي قَرَّرَتْه على سبيل الإِنكار ، وجيء ب " لن " دونَ " لا " لأنها أبلغُ في النفي . وفي مصحف أُبَيّ : " ألا " ب " لا " دون " لن " كأنه قَصَدَ تفسير المعنى .

و " بثلاثة " متعلق ب " يُمِدَّكم " . وقرأ الحسن البصري : " ثلاثَهْ آلاف " بهاء في الوصل ساكنة . وكذلك " بخسمهْ آلاف " كأنه أَجرى الوصل مُجرى الوقف ، وهي ضعيفةٌ لكونها في متضايفين يقتضيان الاتصال . قال ابن عطية : " ووجهُ هذه القرءاة ضعيف ، لأنَّ المضافَ والمضافَ إليه كالشيء الواحد فيقتضيان الاتصالَ والثاني كمالُ الأول ، والهاء إنما هي أَمارةُ وقفٍ فيقلقُ الوقفُ في موضع إنما هو للاتصال ، لكن جاء نحو هذا في مواضعَ للعرب ، فمن ذلك ما حكاه الفراء من قولهم : " أكلت لحما شاة " يريدون : " لحمَ شاة " فَمَطلوا الفتحةَ حتى نشأت عنها ألفٌ كما قالوا في الوقفِ : " قالا " يريدون " قالَ " ، ثم يَمْطُلون الفتحة في القوافي ونحوِها من مواضعِ الرويَّة والتثبُّت ، ومن ذلك في الشعر قوله :

يَنْباع من ذِفْرى غضوبٍ جَسْرَةٍ *** زَيَّافَةٍ مثلِ الفنيق المُكْدَمِ

يريد : " يَنْبَع " فمطَلَ ، ومثلُه قول الآخر :

أقول إذ خَرَّتْ على الكَلْكال *** يا ناقتي ما جُلْت مِنْ مَجَال

يريد " الكلكل " فمطَلَ ، ومثلُه قول الآخر :

فأنتَ من الغوائلِ حين تُرْمَى *** ومن ذمِّ الرجال بمُنْتزاحِ

يريد : بمنتزَح . ، قال أبو الفتح : " فإذا جاز أن يَعْتَرِضَ هذا التمادي بين أثناءِ الكلمة الواحدة جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه إذ هما اثنان " . قال الشيخ بعد كلام ابن عطية : " وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مُجرى الوقف ، أَبْدلها [ هاءً ] في الوصل كما أَبْدلوها في الوقف ، وموجودٌ في كلامهم إجراءُ الوصل مُجرى الوقف ، وإجراءُ الوقفِ مُجْرى الوصل . وأما قوله : " لكن قد جاء نحوُ هذا للعرب في مواضع " وجميعُ ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة ، وإشباعُ الحركةِ ليس نحوَ إبدالِ التاءِ هاءً في الوصل ، وإنما نظيرُ هذا قولهم : " ثلثهَ اربعة " أَبْدل التاء هاء ، ونقل حركة همزة " أربعة " إليها ، وحذفَ الهمزة ، فأَجرى الوصلَ مُجرى الوقف في الإِبدال وأَجْرى الوصلَ مُجرى الوقف ، إذا النقلُ لا يكون إلا في الوصل " .

وقُرىء شاذاً أيضاً : " بثلاثةْ " بتاءٍ ساكنة وهي أيضاً من إجراء الوصل مُجرى الوقف من حيث السكونُ . واختُلف في هذه التاء الموقوف عليها الآن : أهي تاءُ التأنيث التي كانت فسكنت فقط ، أو هي بدلٌ من هاء التأنيث المبدلة من التاء ؟ وهو خلاف لا طائل تحته .

وقوله : { مِّنَ الْمَلائِكَةِ } يجوز أن تكون " مِنْ " للبيان ، وأَنْ تكونَ " من " ومجرورُها في موضعِ الجر صفةً ل " ثلاثة " أو ل " آلاف " .

قوله : { مُنزَلِينَ } صفةٌ لثلاثة آلاف ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من " الملائكة " والأولُ أَظهرُ . وقرأ ابن عامر : " مُنَزَّلين " بالتضعيف ، وكذلك شَدَّد قوله في سورة العنكبوت : { إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ } [ الآية : 34 ] ، إلا أنه هنا اسم مفعول وهناك اسم فاعل . والباقون خففوهما . وقرأ ابن أبي عبلة هنا : " مُنَزِّلين " بالتشديد مكسور الزاي مبنياً للفاعل . وبعضهم قرأه كذلك إلا أنه خَفَّف الزاي ، جَعَلَه من أنزل كأكرم ، والتضعيف والهمزةُ كلاهما للتعدية ، فَفَعَّل وأَفْعل بمعنى ، وقد تقدَّم أن الزمخشري يجعل التشديد دالاً على التنجيم ، وتقدَّم البحث معه في ذلك . وفي القراءتين الآخيرتين يكون المفعولحذوفاً أي : مُنْزِلين النصرَ على المؤمنين والعذاب على الكافرين .