قوله : { إذْ تَقُولُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكر .
الثاني : إن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر ، فالعامل في " إذْ " قوله : { نَصَرَكُمُ اللَّهُ } والتقدير : إذ نصركم الله ببدر ، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين .
وإن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد ، فيكون بَدَلاً من قوله : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ } [ آل عمران : 122 ] ، فهذه ثلاثة أوجه .
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ : أنه يوم أُحُد ، لوجوه :
أحدها : أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة لقوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَة } [ الأنفال : 9 ] ، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف ، وخمسة آلاف{[5881]} ؟
وثانيها : أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً ، وما يقرب منه ، والمسلمون كانوا على الثلث منهم ؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة ، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فلا جرم ، وقعة الهزيمة على الكفار ، فكذلك يوم اُحُد ، كان عدد المسلمين ألفاً ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ ، مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم ، كما هزموهم يوم بدر ، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم{[5882]} .
وثالثها : أنه قال في هذه الآية : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } .
والمراد : ويأتيكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر ، فإنهم لم يأتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء {[5883]} .
فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد ، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد ؟
الأول : أن إنزال الآلاف الخمسة ، كان مشروطاً بأن يصبروا ، ويتَّقوا في المغانم ، فَخَالَفُوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فات الشرط ، فات المشروط ، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة ، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال .
الثاني : أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت .
روى الواقدي عن مجاهد قال : حضرت الملائكة يومَ أُحُد ، ولكنهم لم يقاتلوا{[5884]} ، ورُوِيَ " أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر ، فقُتِل مُصْعَبٌ ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقدم يا مصعب ، فقال الملك : لستُ بمُصعَب ، فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مَلَك أمِدَّ به " {[5885]} .
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهمَ يومئذٍ ، فيرد علي رجل أبيض ، حسن الوجه ، وما كنت أعرفه ، وظننت أنه مَلَك " {[5886]} .
فعلى هذا القول يكون قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ } مُعْتَرِضاً بين الكلامين .
وقال قتادة : أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة ، على ما قال : { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَة } [ الأنفال : 9 ] ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسةَ آلاف ، كما قال هاهنا : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ } [ آل عمران : 125 ] ، فصبروا يوم بدر واتقوا ، فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد ، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر ، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب - في ذلك اليوم - أكثرَ ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى ؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً ، غير مشروط بشرطٍ ، فوجب أن يحصل ، وإنَّما حصل يوم بدر ، لا يوم أُحُد ، وليس لأحد أن يقول : إنهم نزلوا ، لكن ما قاتلوا ؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد ، بل لا بدّ من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ، لا يوم أُحُد .
وأما الجواب عن أدلة الأولين ، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف ، فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ، ثم زاد فيهم ألفين ، فصاروا ثلاثةَ آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين ، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : " ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف ؟ فقالوا : بلى فقال لهم : إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ " .
الثاني : أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير ، فخافوا ، وشَقَّ عليهم ذلك ، لقِلَّة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد ، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ ، فاستغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف .
وأما قولهم : إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً ، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة ، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف ، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك ، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد ، وأما التمسك بقوله : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ } فالجواب : أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم ، واجتمعوا ، وقصدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك ، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة .
قال القرطبيُّ : " نزول الملائكة سبب من أسباب النصر ، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى ، وإنما يحتاج إليه المخلوق ، فلْيَعْلَق القلبُ بالله ، ولْيَثِقْ به ، فهو الناصر بسبب وبغير سبب { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون } [ يس : 82 ] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } [ الأحزاب : 62 ] ، ولا يقدح ذلك في التوكُّل ، وهو رَدٌّ على مَنْ قال : إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء ، لا الأقوياء ؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أقوياءَ ، وغيرهم هم الضعفاء ، وهذا واضح " .
فصل في اختلافهم في عدد الملائكة
اختلفوا في عدد الملائكة ، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد ؛ فقالوا : الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه ، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى ، ومجيء الكفار من فورهم ، فلا بد من التغاير ، وهذا القول ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة ، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط .
ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد .
فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر ، كان عدد الملائكة تسعة آلاف ؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف ، وذكر خمسة آلاف ، فالمجموع تسعة آلاف .
وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة ، فيكون المجموع ثمانية آلاف .
وعلى القول الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد ، فإن حملنا الآية على قصة بدر ، فقالوا : عدد الملائكة : خمسة آلاف ؛ لأنهم وُعِدوا بالألف ، ثم ضُمَّ إليه الألفان ، فصاروا ثلاثةً ، ثم ضُمَّ إليه ألفان ، فلا جرم ، وعدوا بخمسة آلاف .
وقد رُوِيَ " أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف ، فقيل : إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد ان يُمِدَّ المشركين ، فشَقَّ ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم : " ألَنْ يَكْفِيَكُمْ " . يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ .
وإن حملناها على قصة أُحُد ، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف ؛ لأن الخمسةَ ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا ، ويأتوهم من الفور .
أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر ، وأنهم قاتلوا الكفارَ .
قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ، ولا يقاتلون ، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين .
وقال الحسن : هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة .
وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار ، واحْتَجَّ عليه بوجوه :
الأول : أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض ؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط ، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة ، ثم رفعها إلى السماء ، فجعل عاليها سافلَها ، فإذا حضر هو يوم بدر ، فأيُّ حاجة إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار ؟ ثم بتقدير حضوره ، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟
الثاني : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين ، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم ، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة .
الثالث : أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس ، أوْ لا ، فإن رآهم الناس ، فإما أن يروهم في صورة الناس ، أو في صورة غيرهم ، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس ، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر ، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِم } [ الأنفال : 44 ] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس ، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق ؛ لأن من شاهد الجن ، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم ، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا ، وحزوا الرؤوس ، وشقُّوا البطون ، وأسقطوا الكفار عن الأفراس ، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين ، وهذا يكون من أعظم المعجزات ، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد ، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه .
الرابع : أن الملائكة الذين نزلوا ، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة ، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم ، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك ، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة ، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول .
والجواب : أن نص القرآن ناطق بِها ، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر{[5887]} لما رجعت قريش من أحد ، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا ، ويقولون : لم نَرَ الخيل البُلْق ، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر{[5888]} .
وقال سعدُ بن أبي وقاص : رأيتُ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ{[5889]} ، ما رأيتهما قبل ، ولا بعد .
قال سعدُ بن إبراهيمَ : يعني : جبريل وميكائيل .
وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة ، فأما من يُقِرُّ بهما ، فلا يليق به شيءٌ من هذا ، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت ؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء ؛ لأنه قادر على جميع الممكنات .
اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة .
فقال بعضهم : بالقتال مع المؤمنين .
وقال بعضهم : بل بتقوية نفوسهم ، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم ، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار .
وقال أكثر المفسرين : إنهم لم يقاتلوا في غير بدر .
قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } معنى الكفاية : هو سَدُّ الخلة ، والقيام بالأمر .
يقال : كَفَاهُ أمر كذا ، أي : سَدَّ خلته .
والإمداد : إعانة الجيش بالجيش ، وهو في الأصل إعطاء الشيء حالاً بعد حال .
قال المفضَّل : ما كان على جهة القوة والإعانة ، قيل فيه : أمَدَّه يُمِدُّه ، وما كان على جهة الزيادة ، قيل فيه : مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه : { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [ لقمان : 27 ] .
وقيل : المَدُّ في الشر ، والإمداد في الخير ؛ لقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً } [ مريم : 79 ] وقال في الخير : { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف } [ الأنفال : 9 ] وقال : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين }
قوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فاعل ، { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } أي : ألن يكفيكم إمدادُ ربكم ، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار ، وجيء ب " لن " دون " لا " ؛ لأنها أبلغ في النفي ، وفي مصحف أبيّ " ألا " بدون " لن " وكأنه قصد تفسير المعنى .
و " بثلاثة " متعلق ب { يُمِدَّكُمْ } .
وقرأ الحسن البصريّ " ثلاثة آلافٍ " - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك " بخمسة آلافٍ " كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف ، وهي ضعيفة ؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال .
قال ابن عطية : ووجْه هذه القراءة ضعيف ؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول ، والهاء إنما هي أمارة وقف ، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم : أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ ، حتى نشأت عنها ألِفٌ ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي ، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت .
ومن ذلك في الشعر قوله : [ الكامل ]
يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ *** زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ{[5890]}
يريد : " ينبع " ، فمطل ومثله قول الآخر : [ الرجز ]
أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ *** يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ{[5891]}
يريد : " الكلكل " ، فمطل ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]
فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى *** وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ{[5892]}
قال أبو الفتح : " فإذا جاز أن يعترض هذا [ الفتور ] {[5893]} والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما اثنان " .
قال أبو حيان {[5894]}- بعد نقل كلام ابن عطية - : " وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف ، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة ، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل ، وإنما نظير هذا قولهم : ثلاثة أربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال ، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف ؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل " .
وقرئ شاذًّا - أيضاً - : بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة{[5895]} ، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن ، أهي تاء التأنيث التي كانت ، فسكنت فقط ، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء ؟ ولا طائل تحته .
قوله : { مِّنَ الْمَلائِكَةِ } يجوز أن تكون " مِنْ " للبيان ، وأن تكون " مِنْ " ومجرورها في موضع الجر صفة ل " لَثَلاثَةِ " أو لِ " آلافٍ " .
قوله : { مُنْزَلِينَ } صفة ل " ثلاثة آلاف " ، ويجوز أن يكون حالاً من " الْمَلاَئِكَةِ " والأول أظهر . وقرأ ابن عامر " مُنزَّلين " - بالتضعيف {[5896]}- وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت : { إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ } [ العنكبوت : 34 ] إلا أنه هنا - اسم مفعول ، وهناك اسم فاعل .
والباقون خفَّفوها{[5897]} وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزِّلين - بالتشديد مكسور الزاي ، مبنياً للفاعل .
وبعضهم قرأه كذلك ، إلا أنه خفف الزاي{[5898]} ، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، ففعَّل وأفْعل بمعنًى ، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً ، أي : منزلين النصر على المؤمنين ، والعذاب على الكافرين .