{ الجوار } جمع جارية ؛ من الجري وهو المر السريع . { الكنس } كركع . جمع كانس ؛ من كنس الظبي – من باب نزل – دخل كناسه ، وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر ؛ لأنه يكنس الرمل حتى يصل إليه . أقسم تعالى بالنجوم التي تخنس بالنهار ، أي يغيب ضوءها فيه عن الأبصار مع كونها فوق الأفق ، ويظهر بالليل . وتكنس ، أي تستتر وقت غروبها ، أي نزولها تحت الأفق ؛ كما تكنسي الظباء في كنسها . وإنما أقسم بها لدلالتها بهذه الأحوال المختلفة والحركات المتسقة – على عظيم قدرة مبدعها ومصرفها . وكذلك في القسمين الآخرين . ومن ذلك خلقه ذلك الملك الكريم القوي الأمين ، وإنزاله بالوحي على رسوله العظيم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في" الخُنّس الجوار الكُنّس"؛
فقال بعضهم: هي النجوم الدراريّ الخمسة، تخنِس في مجراها فترجع، وتكنس فتستتر في بيوتها، كما تكنِس الظباء في المغار...
وقال آخرون: هي بقر الوحش التي تكنس في كناسها...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بأشياء تخنس أحيانا: أي تغيب، وتجري أحيانا وتكنس أخرى، وكنوسها: أن تأوي في مكانسها، والمكانِس عند العرب، هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء...
فالكِناس في كلام العرب ما وصفت، وغير مُنكر أن يُستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء، فالصواب أن يُعَمّ بذلك كلّ ما كانت صفته الخنوس أحيانا، والجري أخرى...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الأشياء التي وقع بها القسم تقتضي أحكاما ثلاثة:
أحدها: ما من شيء خلقه الله تعالى إلا وفيه دليل وحدانيته وآية ربوبيته، إذا أمعن النظر فيه.
والثاني: تثبيت علمه وحكمته يدل على قدرته وسلطانه.
والثالث: في تثبيت القدرة والسلطان إيجاب القول بالرسالة، ونهي عن عبادة غير الله. فلو أمعنوا النظر فيها، وتفكروا في أمره أدّاهم ذلك إلى القول بالبعث، ودعاهم إلى وحدانية الرب والإقرار بالرسل، فلا كانوا يدّعون أن معه آلهة أخرى، ولا كانوا ينكرون البعث، ولا يكذبون الرسول. فأقسم بهذه الأشياء على التأكيد بحججه ليعلموا أنه رسول من عنده، أو أن الأوامر من عنده، أو أن يكون القسم تلقينا من الله تعالى لرسوله بأن يقسم لهم بهذه الأشياء ليزيل عنهم الشبه والشكوك التي اعترضت للكفرة في أمره صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى النظر في حججه وآياته. ثم القسم بما لطف من الأشياء، ودق، وبما كثف، وغلظ، وبما كبر، وصغر، وبما ظهر، وخفي، تتفق كلها في إزالة الشبه وإثبات التوحيد والرسالة والبعث. بل الأعجوبة في ما لطف من الأشياء أعظم منها بما كثف، وغلظ. فأقسم مرة بالكواكب، ومرة بظلمة الليل وما يضحى وبما شاء من خلقه. إن الخلائق كلها في الشهادة على وحدانيته وإثبات ربوبيته وإثبات علمه وقدرته وسلطانه متفقة، ولأن ما لطف من الأشياء، وخفي منها، يتصل بما ظهر منها، فيتضمن ذكر ما خفي منها، واستتر، ذكر ما ظهر منها، وفي ذكر ما ظهر منها ذكر منشئها، فيكون القسم في الحقيقة بالله تعالى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه النجوم التي تجري في مسيرها ثم تغيب في مغاربها على ما دبره تعالى فيها؛ ففي طلوعها، ثم جريها في مسيرها، ثم غيبتها في مواقفها من الآية العظيمة والدلالة الباهرة المؤدية إلى معرفته تعالى ما لا يخفى على متأمل معرفته وعظيم شأنه...
المشهور الظاهر، أنها النجوم الخنس جمع خانس، والخنوس: الانقباض والاستخفاء...
.وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس، ولا شك أن هذه حالة عجيبة وفيها أسرار عظيمة باهرة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه، فقيل: الخُنَّس وهو من بديع التشبيه، لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون سكون في كناس، وكذلك الكواكب لأنها لا تُرى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها. وشبه ما يبدو للأنظار من تنقلها في سمت الناظرين للأفق باعتبار اختلاف ما يسامتها من جزء من الكرة الأرضية بخروج الوحش، فشبهت حالة بُدُوّها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحش تجري بعد خنوسها تشبيه التمثيل. وهو يقتضي أنها صارت مرئية فلذلك عقب بعد ذلك بوصفها بالكُنّس، أي عند غروبها تشبيهاً لغروبها بدخول الظبي أو البقرة الوحشية كِناسها بعد الانتشار والجري. فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها، وشبه تنقل مَرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحاً...
والمعروف في إقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى أو الأشياء المباركة...
قوله تعالى : " فلا أقسم " أي أقسم ، و " لا " زائدة ، كما تقدم . " بالخنس ، الجوار الكنس " هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة ، فيما ذكر أهل التفسير . والله أعلم . وهو مروي عن علي كرم الله وجهه . وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان : أحدهما : لأنها تستقبل الشمس . قاله بكر بن عبد الله المزني . الثاني : لأنها تقطع المجرة . قاله ابن عباس . وقال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت ، وقاله علي رضي الله عنه ، قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل ، وتكنس في وقت غروبها ، أي تتأخر عن البصر لخفائها ، فلا ترى .
وفي الصحاح : " الخنس " : الكواكب كلها ؛ لأنها تخنس في المغيب ، أو لأنها تخنس نهارا . ويقال : هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة . وقال الفراء في قوله تعالى : " فلا أقسم بالخنس . الجواري الكنس " : إنها النجوم الخمسة ، زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ؛ لأنها تخنس في مجراها ، وتكنس ، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار ، وهو الكناس . ويقال : سميت خنسا لتأخرها ، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم ، يقال : خنس عنه يحنس بالضم خنوسا : تأخر ، وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه . والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة ، والرجل أخنس ، والمرأة خنساء ، والبقر كلها خنس . وقد روي عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : " فلا أقسم بالخنس " هي بقر الوحش . روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : قال لي عبد الله بن مسعود : إنكم قوم عرب فما الخنس ؟ قلت : هي بقر الوحش . قال : وأنا أرى ذلك . وقال إبراهيم وجابر بن عبد الله . وروي عن ابن عباس : إنما أقسم الله ببقر الوحش . وروى عنه عكرمة قال : " الخنس " : البقر و " الكنس " : هي الظباء ، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن . القشيري : وقيل على هذا " الخنس " من الخنس في الأنف ، وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة ، وأنوف البقر والظباء خنس . والأصح الحمل على النجوم ، لذكر الليل والصبح بعد هذا ، فذكر النجوم أليق بذلك .
قلت : لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد ، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك . وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وهما صحابيان والنخعي : أنها بقر الوحش . وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء . وعن الحجاج بن منذر قال : سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس ؟ فقال : الظباء والبقر ، فلا يبعد أن يكون المراد النجوم . وقد قيل : إنها الملائكة . حكاه الماوردي . والكنس الغُيَّبُ . مأخوذة من الكناس ، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه . قال أوس بن حجر :
ألم تر أن الله أنزل مُزْنَه *** وعُفْرُ الظباء في الكِنَاسِ تَقَمَّعُ{[15824]}
كأن كِنَاسَيْ ضالةٍ يَكْنُفَانِهَا *** وأَطْرَ قِسِيٍّ تحتَ صُلْبٍ مُؤَيَّدِ{[15825]}
وقيل : الكنوس أن تأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء . قال الأعشى في ذلك :
فلما أتينا الحي أتْلَعَ آنسٌ *** كما أَتْلَعَتْ تحت المكانسِ رَبْرَبُ
يقال : تلع . النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها : أي سَمَت بجيدها . وقال امرؤ القيس :
تَعَشَّى{[15826]} قليلا ثم أنْحَى ظُلُوفَهُ *** يثِيرُ التُّرَابَ عن مَبِيتٍ ومَكْنِسِ
والكنس : جمع كانس وكانسة ، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة . والجواري : جمع جارية من جرى يجري .
ثم أبدل منها أعظمها فقال : { الجوار الكنس * } أي السيارة التي تختفي{[71897]} وتغيب بالنهار تحت ضوء الشمس ، من كنس الوحش - إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر ، وقال الرازي : يكنس ويستتر{[71898]} العلوي منها بالسفلي عند القرانات كما تستتر الظباء في الكناس ، وقال قتادة{[71899]} : تسير{[71900]} بالليل وتخنس{[71901]} بالنهار فتخفى ولا ترى ، وروي ذلك أيضاً عن علي رضي الله تعالى عنه ، قال البغوي{[71902]} : وأصل الخنوس الرجوع إلى-{[71903]} وراء والكنوس أن تأوي إلى مكانسها{[71904]} . وقال القشيري : إن ذلك غروبها ، وإنما نفى الإقسام بها-{[71905]} لأنها وإن كانت عظيمة في أنفسها{[71906]} بما ناط بها سبحانه من المصالح وأنتم تعظمونها وتغلون فيها لأن فيها نقائص الغيبوبة و-{[71907]} انبهار النور ، والقرآن المقسم{[71908]} لأجله منزه عن ذلك ، بل هو الغالب على كل ما سواه من الكلام غلبة-{[71909]} هي أعظم من غلبة ضياء الشمس لنور ما سواها من الكواكب ، فلذلك لا يليق أن يقسم بها لأجله .