عن السبب الذي لأجْله قُتلت . . ( وكانت هذه العادة عند العربِ من أسوأ العادات ، وكانت فاشيةً عندهم في الجاهلية ، فكان بعضهم يدفنون البناتِ وهن أحياء ، وبعضُهم يقتلونهنّ بشتى الوسائل : إما للغِيرة والحميّة ، وإما من الخوف من الفقر والإملاق ) . فجاء الإسلامُ وأبطلَ هذه العادةَ السيئة ، وأكرم الأنثى ، وأعطاها حقوقها واحترمَها غاية الاحترام ، وحلّت الرحمةُ محلّ الفظاظة ، والرأفةُ محل الغِلظة بفضل هذا الدين القويم . فما أعظمَ نعمةَ الإسلام على الإنسانية بأسرها !
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يراد بالسؤال تخويف وتهويل للذين وأدوها، ولا سؤال استخبار واستفهام، وهو كقوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} بالمائدة: 116] وليس يسأل عن هذا سؤال استخبار واستفهام، ولكن يسأل تخويف وتهويل من ادعى أن عيسى عليه السلام، هو الذي أمرهم أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله. [والثالث:] أن تسأل الموءودة: أتدعي؟ أم لا تدعي؟ وما الذي تدعي عليهم؟ فيبدأ بها بالسؤال كما يرى المدعي في الشاهد: هو الذي يبدأ بالسؤال، فيقال له: ما تدعي على هذا؟ فقوله: {بأي ذنب قتلت} كأنها إذا سئلت عن الذي ادعت، وقالت: {بأي ذنب قتلت} والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{بأي} أي بسبب أيّ {ذنب} يا- أيها الجاهلون {قتلت} أي استحقت به عندكم القتل وهي لم- تباشر سوءاً لكونها لم تصل إلى حد التكليف، فما ظنك بمن هو فوقها وبمن هو جان، وسؤالها هو على وجه التبكيت لقاتلها، فإن العرب كانت تدفن البنات أحياء مخافة الإملاق أو لحوق العار بهن، ويقولون: نردها إلى الله هو أولى بها، فلا يرضون البنات لأنفسهم ويرضونها لخالقهم، وكان فيهم من يتكرم عن ذلك ومن يفدي الموءودات ويربيهن...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
توجيهُ السؤالِ إليهَا لتسليتِها وإظهارِ كمالِ الغيظِ والسَّخطِ لوائدها وإسقاطِه عن درجةِ الخطابِ والمبالغةِ في تبكيتِه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
(أي) اسم استفهام يطلب به تميز شيء من بين أشياء تشترك معه في حال. والاستفهام في {بأي ذنب} تقريري، وإنما سئلت عن تعيين الذنب الموجب قتلها دون أن تُسأل عن قاتلها لزيادة التهديد لأن السؤال عن تعيين الذنب مع تحقق الوائد الذي يسمع ذلك السؤال أن لا ذنب لها إشعار للوائد بأنه غير معذور فيما صنع بها. وينتزع من قوله تعالى: {سئلت بأي ذنب قتلت} الواردِ في سياق نفي ذنب عن الموءودة يوجب قتلها استدلالٌ على أنّ من ماتوا من أطفال المشركين لا يعتبرون مشركين مثل آبائهم...
أخبريني أي ذنب فعلته حتى يئدك أبوك، فكأن هذا تقريع للأب، بأنه ما كان يصح أن يعتدي عليها أبداً إلا إذا كانت قد ارتكبت ذنباً، وحيث لا ذنب، فمعنى ذلك أنك قد افتريت عليها بدون ذنب تستحقه، فهذا تقريع على أعنف صور التقريع.
قوله تعالى : " وإذا الموؤودة سئلت ، بأي ذنب قتلت " الموؤودة المقتولة ، وهي الجارية تدفن وهي حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب ، فيؤودها أي يثقلها حتى تموت ، ومنه قوله تعالى : " ولا يؤوده حفظهما " [ البقرة : 255 ] أي لا يثقله ، وقال متمم بن نويرة :
وموؤودة مقبورة في مفازةٍ *** بآمتِها موسودة لم تُمهَّدِ
وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين : إحداهما : كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به . الثانية : إما مخافة الحاجة والإملاق ، وإما خوفا من السبي والاسترقاق . وقد مضى في سورة " النحل " هذا المعنى ، عند قوله تعالى : " أم يدسه في التراب " [ النحل : 59 ] مستوفى . وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ، ويمنعون منه ، حتى افتخر به الفرزدق ، فقال :
ومنا الذي مَنَعَ الوائداتِ *** فأحيا الوئيد فلم يُوأَدِ
يعني جده صعصعة كان يشتريهن من آبائهن . فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موؤودة . وقال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخضت على رأسها ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وردت التراب عليها ، وإن ولدت غلاما حبسته ، ومنه قول الراجز :
سَمَّيْتَهَا إذ وُلِدَتْ تموتُ*** والقبرُ صِهْرٌ ضامنٌ زِمِّيتُ
الزميت الوقور ، والزميت مثال الفسيق أوقر من الزميت ، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم ، وما أشد تزمته . عن الفراء . وقال قتادة : كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ، ويغذو كلبه ، فعاتبهم الله على ذلك ، وتوعدهم بقوله : " وإذا الموؤودة سئلت " قال عمر في قوله تعالى : " وإذا الموؤودة سئلت " قال : جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني وأدت ثماني بنات كن لي في الجاهلية ، قال : ( فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة ) قال : يا رسول الله إني صاحب إبل ، قال : ( فأهد عن كل واحدة منهن بدنة إن شئت ) .
وقوله تعالى : " سئلت " سؤال الموؤودة سؤال توبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لم ضربت ؟ وما ذنبك ؟ قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها ؛ لأنها قتلت بغير ذنب . وقال ابن أسلم : بأي ذنب ضربت ، وكانوا يضربونها . وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى : " سئلت " قال : طلبت ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل . قال : وهو كقوله : " وكان عهد الله مسؤولا " [ الأحزاب : 15 ] أي مطلوبا . فكأنها طلبت منهم ، فقيل أين أولادكم ؟ وقرأ الضحاك وأبو الضحا عن جابر بن زيد وأبي صالح " وإذا الموؤودة سألت " فتتعلق الجارية بأبيها ، فتقول : بأي ذنب قتلتني ؟ ! فلا يكون له عذر . قاله ابن عباس وكان يقرأ " وإذا الموؤودة سألت " وكذلك هو في مصحف أبي . وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها ، ملطخا بدمائه ، فيقول يا رب ، هذه أمي ، وهذه قتلتني ) . والقول الأول عليه الجمهور ، وهو مثل قوله تعالى لعيسى : " أأنت قلت للناس " ، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم ، فكذلك سؤال الموؤودة توبيخ لوائدها ، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها ؛ لأن هذا مما لا يصح إلا بذنب ، فبأي ذنب كان ذلك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها ، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها . والله أعلم . وقرئ " قتلت " بالتشديد ، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب .
ثم قيل على طريق الاستئناف تخويفاً للوالدين : { بأي } أي {[71858]}بسبب أيّ{[71859]} { ذنب } يا-{[71860]} أيها الجاهلون { قتلت * } أي استحقت به عندكم القتل وهي لم-{[71861]} تباشر{[71862]} سوءاً لكونها لم تصل إلى حد التكليف ، فما ظنك بمن هو فوقها وبمن هو جان ، وسؤالها هو على وجه التبكيت لقاتلها ، فإن العرب كانت تدفن البنات أحياء مخافة الإملاق أو لحوق العار بهن ، ويقولون : نردها إلى الله هو أولى بها ، فلا يرضون البنات لأنفسهم ويرضونها لخالقهم ، وكان فيهم من يتكرم عن{[71863]} ذلك{[71864]} ومن يفدي الموءودات ويربيهن ، وليس في الآية دليل على تعذيب أطفال الكفرة ولا عدمه ، فإن الكافر الذي يستحق الخلود قد يكون مستأمناً فلا يحل قتله ، والأطفال ما{[71865]} عملوا ما يستحقون به القتل ، ويؤخذ من سؤال المؤدة تحريم الظلم لكل أحد-{[71866]} وكف اليد واللسان عن كل إنسان .