{ لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون } أي لجعلنا ذلك الزرع متكسرا متفتتا لشدة يبسه ، لا نفع فيه بعد ما أنبتناه ؛ فأنتم بسبب ذلك تتعجبون من سوء حاله بعد خضرته ونضارته . أو تندمون على ما تعبتم فيه وأنفقتم عليه من غير طائل . وأصل التفكه : التنقل بصنوف الفاكهة ، ثم استعير للتنقل بالحديث ؛ وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع ، وكنى به في الآية عن التعجب أو الندم .
فقال : { لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ } أي : الزرع المحروث وما فيه من الثمار { حُطَامًا } أي : فتاتا متحطما ، لا نفع فيه ولا رزق ، { فَظَلْتُمْ } أي : فصرتم بسبب جعله حطاما ، بعد أن تعبتم فيه وأنفقتم النفقات الكثيرة { تَفَكَّهُونَ } أي : تندمون وتحسرون على ما أصابكم ، ويزول بذلك فرحكم وسروركم وتفكهكم ، فتقولون :
قوله تعالى : { لو نشاء لجعلناه حطاماً } قال عطاء : تبناً لا قمح فيه ، وقيل : هشيماً لا ينتفع به في مطعم وغذاء ، { فظلتم } وأصله : فظللتم ، حذفت إحدى اللامين تخفيفاً . { تفكهون } تتعجبون بما نزل بكم في زرعكم ، وهو قول عطاء والكلبي ومقاتل . وقيل تندمون على نفقاتكم ، وهو قول يمان ، نظيره : { فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها }( الكهف- 42 ) ، وقال الحسن : تندمون على ما سلف منكم من المعصية التي أوجبت تلك العقوبة . وقال عكرمة : تتلاومون . وقال ابن كيسان : تحزنون . قال الكسائي : هو تلهف على ما فات ، وهو من الأضداد ، تقول العرب : تفكهت أي : تنعمت وتفكهت أي : حزنت .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لو نشاء} إذا أدرك وبلغ {لجعلناه حطاما} يعني هالكا {فظلتم تفكهون} يعني تعجبون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لو نشاء جعلنا ذلك الزرع الذي زرعناه حُطاما، يعني هشيما لا يُنتفع به في مطعم وغذاء.
وقوله:"فَظَلْتُمْ تَفَكّهُونَ "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: فظلتم تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم من المصيبة باحتراقه وهلاكه...
وقال آخرون: معنى ذلك: فظلتم تلاومون بينكم في تفريطكم في طاعة ربكم جلّ ثناؤه، حتى نالكم بما نالكم من إهلاك زرعكم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلتم تندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجب لكم عقوبته، حتى نالكم في زرعكم ما نالكم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلتم تعجبون...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى فَظَلْتُم: فأقمتم تعجبون مما نزل بزرعكم، وأصله من التفكه بالحديث إذا حدّث الرجلُ الرجلَ بالحديث يعجب منه، ويلهى به، فكذلك ذلك. وكأن معنى الكلام: فأقمتم تتعجبون يُعَجّب بعضكم بعضا مما نزل بكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لو نشاء لجعلناه حطاما} أي يابسا...أي متكسّرا، ليذكر نعمه التي أنعمها عليهم؛ يقول: هو الذي جعله بحيث ينتفع [به] ويبقى. ولو شاء لجعله بحيث لا ينتفع به، أو يخبر عن قدرته أنه قادر على الإنبات وعلى الإهلاك. فعلى ذلك هو قادر على الإنشاء والإعادة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: ما أولاهم من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه.
الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعل الزرع حطاماً إذا شاء كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والحطام: اليابس المتفتت من النبات الصائر إلى ذهاب، وبه شبه حطام الدنيا. وقيل المعنى: نبتاً لا قمح فيه و: {تفكهون} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه: تعجبون، وقال عكرمة: تلامون. وقال الحسن معناه: تندمون وقال ابن زيد: تتفجهون، وهذا كله تفسير لا يخص اللفظة، والذي يخص اللفظ، هو: تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي المسرة والجدل، ورجل فكه إذا كان منبسط النفس غير مكترث بالشيء...
{لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون، إنا لمغرمون، بل نحن محرومون} وهو تدريج في الإثبات، وبيانه هو أنه لما قال: {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} لم يبعد من معاند أن يقول: نحن نحرث وهو بنفسه يصير زرعا، لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا، فقال تعالى: ولو سلم لكم هذا الباطل، فما تقولون في سلامته عن الآفات التي تصيبه، فيفسد قبل اشتداد الحب وقبل انعقاده، أو قبل اشتداد الحب وقبل ظهور الحب فيه، فهل تحفظونه منها أو تدفعونها عنه، أو هذا الزرع بنفسه يدفع عن نفسه تلك الآفات، كما تقولون: إنه بنفسه ينبت، ولا يشك أحد أن دفع الآفات بإذن الله تعالى، وحفظه عنها بفضل الله...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
ويقال: تفكه إذا زالت عنه الفكاهة فصار حزينا لأن صيغة تفاعل تأتي لزوال الشيء كقولهم: تحرج وتأثم إذا زال عنه الحرج والإثم فالمعنى: صرتم تحزنون على الزرع لو جعله الله حطاما.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{لو نشاء لجعلناه حطاماً}، موقعها كموقع جملة: {نحن قدّرنا بينكم الموت} [الواقعة: 60] في أنها استدلال بإفنائه ما أوجده على انفراده بالتصرف إيجاداً وإعداماً، تكلمة لدليل إمكان البعث. واللام في قوله: {لجعلناه} مفيدة للتأكيد. ويكثر اقتران جواب (لو) بهذه اللام إذا كان ماضياً مثبتاً كما يكثر تجرده عنها كما سيجيئ في الآية الموالية لهذه. والحُطام: الشيء الذي حَطمه حاطم، أي كَسره ودقّه فهو بمعنى المحطوم، كما تدل عليه زنة فُعال مثل الفُتات والجُذاذ والدُقاق، وكذلك المقترن منه بهاء التأنيث كالقُصاصة والقُلاَمة والكُناسة والقُمامة. والمعنى: لو نشاء لجعلنا ما ينبت بعد خروجه من الأرض حُطاماً بأن نسلط عليه ما يحطمه من بَرَد أو ريح أو حشرات قبل أن تنتفعوا به، فالمراد جعله حطاماً قبل الانتفاع به. وأما أن يُؤول إلى الكَون حطاماً فذلك معلوم فلا يكون مشروطاً بحرف (لو) الامتناعية.
ثم قال " لو نشاء لجعلناه حطاما " أي متكسرا يعني الزرع . والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء ، فنبه بذلك أيضا على أمرين : أحدهما : ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه . الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم ، كما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا . " فظللتم تتفكهون " أي تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم ، قاله الحسن وقتادة وغيرهما . وفي الصحاح : وتفكه أي تعجب ، ويقال : تندم ، قال الله تعالى : " فظلتم تفكهون " أي تندمون . وتفكهت بالشيء تمتعت به . وقال يمان : تندمون على نفقاتكم ، دليله : " فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها{[14664]} " [ الكهف : 42 ] وقال عكرمة : تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم . ابن كيسان : تحزنون ، والمعنى متقارب . وفيه لغتان : تفكهون وتفكنون : قال الفراء : والنون لغة عكل . وفي الصحاح : التفكن التندم على ما فات . وقيل : التفكه التكلم فيما لا يعنيك ، ومنه قيل للمزاج فكاهة بالضم ، فأما الفكاهة بالفتح فمصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا . وقراءة العامة " فظلتم " بفتح الظاء . وقرأ عبدالله " فظلتم " بكسر الظاء ورواها هارون عن حسين عن أبي بكر . فمن فتح فعلى الأصل . والأصل ظللتم فحذف اللام الأولى تخفيفا ، ومن كسر نقل كسرة اللام الأولى إلى الظاء ثم حذفها .
{ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون } الحطام اليابس المفتت وقيل : معناه تبن بلا قمح .
{ فظلتم تفكهون } أي : تطرحون الفاكهة وهي المسرة يقال : رجل فكه إذا كان مسرورا منبسط النفس ويقال : تفكه إذا زالت عنه الفكاهة فصار حزينا لأن صيغة تفاعل تأتي لزوال الشيء كقولهم : تحرج وتأثم إذا زال عنه الحرج والإثم فالمعنى : صرتم تحزنون على الزرع لو جعله الله حطاما وقد عبر بعضهم عن { تفكهون } بأن معناه : تتفجعون وقيل : تندمون وقيل : تعجبون وهذه معان متقاربة والأصل ما ذكرنا .
ولما كان الجواب قطعاً : أنت الفاعل لذلك وحدك ؟ قال{[62187]} موضحاً لأنه ما زرعه غيره بأن الفاعل الكامل من يدفع عما صنعه ما يفسده ، ومن إذا أراد إفساده لم يقدر أحد على منعه { لو نشاء } أي لو عاملناكم بصفة العظمة ، وأكد لأن فعلهم فعل الآمن من{[62188]} ذلك مع أنهم في غاية الاستبعاد لأن يهلك زرعهم كما زرعوه أو لأن المطعوم أهم من المشروب وأعظم ، فإنه الأصل في إقامة البدن والمشروب تبع له فقال : { لجعلناه } أي بتلك العظمة { حطاماً } أي مكسراً مفتتاً لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهلك أو غير ذلك فلا ينتفع به { فظلتم } أي فأقمتم بسبب ذلك نهاراً في وقت الأشغال العظيمة وفي كل وقت وتركتم كل ما يهمكم { تفكهون * } قال في القاموس : فكههم بملح الكلام : أطرفهم بها وفكه - كفرح فكهاً فهو فكه وفاكه : طيب النفس أو يحدث صحبه فيضحكهم ومنه تعجب كتفكه ، والتفاكه : التمازح ، وتفكه : تندم : والأفكوكة : الأعجوبة ، وقال ابن برجان : الفكه هو المتردد في القول الذاهب فيه كل مذهب - انتهى .
فأقمتم دائماً تندمون على العاقكم أو معاصيكم التي سببت ذلك التلف أو تتعجبون أو تحدثون في ذلك ولم تعرجوا على شغل غيره كما تفعلون عند الأشياء السارة التي هي في غاية الإعجاب والملاحة والملاءمة ، ولهذا عبر عما المراد به الإقامة مع الدوام ب { ظل } الذي معناه أقام نهاراً إشارة إلى ترك الأشغال التي تهم ومحلها النهار ويمنع الإنسان من أكثر ما يهمه من الكلام لهذا النازل الأعظم ، وحذف إحدى لامي ظل وتاء التفعل من تفكه إشارة إلى ضعف المصابين عن الدفاع في بقائهم وفي كلامهم حال بقائهم الضعيف ، وكون المحذوف عين الفعل وهو الوسط ، إشارة إلى خلع القلب واختراق الجوف والقهر العظيم ، فلا قدرة لأحد منهم على ممانعة هذا النازل بوجه ولا على تبريد ما اعتراه منه من حرارة الصدر وخوف الفقر بغير الشكاية إلى آماله ممن يعلم أنه لا ضر في يده ولا نفع ، وربما كان ذلك إشارة إلى أنه{[62189]} عادته سبحانه قرب الفرج في شدائد الدنيا ليكون الإنسان متمكناً من الشكر لا عذر له في تركه ، ويكون المعنى أنكم مع كثرة{[62190]} اعتيادكم للفرج بعد الشدة عن قرب تيأسون أول ما يصدمكم البلاء ، فتقبلون على كثرة الشكاية ، ولا ينفعكم كثرة التجارب لإدرار النعم أبداً .