اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَوۡ نَشَآءُ لَجَعَلۡنَٰهُ حُطَٰمٗا فَظَلۡتُمۡ تَفَكَّهُونَ} (65)

قوله : { لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } .

أتى هنا بجواب «لو » مقروناً ب «اللام » ، وهو الأكثر ؛ لأنه مثبت ، وحذف في قوله : { جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } ؛ لأن المنّة بالمأكول أعظم منها بالمشروب . قاله الزمخشري{[54988]} .

وهذا منقوض{[54989]} بقوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا } [ يس : 66 ] و{ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ } [ يس : 67 ] ، وذلك أن أمر الطَّمس أهون من أمر المسخ ، وأدخل فيهما «اللام » .

وأجاب الزمخشري{[54990]} بجواب آخر فقال : { ولو نشاء لجعلناه حطاماً } كان أقرب الذكر ، فاستغنى باللام فيه عن ذكرها ثانياً .

قال ابن الخطيب{[54991]} : وهذا ضعيف ؛ لأن قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] مع قوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ } [ يس : 67 ] أقرب من قوله : { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } ، و{ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } اللَّهُم إلاَّ أن تقول هناك : أحدهما قريب من الآخر ذكراً لا معنى ؛ لأن الطَّمْس لا يلزمه المَسْخ ولا بالعكس ، وأما المأكول يكون معه المشرُوب في الدهر فالأمران متقاربان لفظاً ومعنى .

فصل في الكلام على هذه الآية

قال الماوردي{[54992]} : هذه الآية تتضمن أمرين :

أحدهما : الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم .

الثاني : البرهان الموجب للاعتبار ؛ لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره ، وانتقاله إلى استواء حاله من العفنِ والتَّتريب حتى صار زرعاً أخضر ، ثم قوي مشتدًّا أضعاف ما كان عليه ، فهو بإعادة من أمات أحق عليه وأقدر ، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السَّليمة ، ثم قال : { لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } أي : متكسِّراً ، يعني : الزَّرع والحُطَام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء ، فنبَّه بذلك على أمرين :

أحدهما : ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه .

الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم كما أنه يجعل الزَّرع حُطاماً إذا شاء ، وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتَّعظوا فينزجروا{[54993]} .

قوله : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } .

قرأ العامة : بفتح الظَّاء ، بلام واحدة وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في «طه »{[54994]} .

وأبو حيوة وأبو بكر{[54995]} في رواية : بكسر الظاء .

وعبد الله الجحدري{[54996]} : «فظَلِلتُمْ » على الأصل بلامين ، أولاهما مكسورة .

وروي عن الجحدري : فتحها ، وهي لغة أيضاً .

والعامة : «تَفَكَّهُونَ » بالهاء .

ومعناه : تَنْدَمُون ، وحقيقته : تلقون الفكاهة من أنفسكم ، ( ولا تلقى ) {[54997]} الفكاهة إلاَّ من الحزن ، فهو من باب «تحَرَّج وتأثّم وتحوب »{[54998]} .

وقيل : «تفكّهون » . تتعجبون بذهابها ما نزل بكم في زرعكم . قاله عطاء والكلبي ومقاتل .

وقيل : تتندمون مما حلّ بكم . قاله الحسن وقتادة وغيرهما .

وقيل : تلاومُون .

وقيل : تتفجَّعون ، وهذا تفسير باللازم .

وقرأ أبو حزام{[54999]} العكلي : «تَفَكَّنُونَ » بالنون ، أي : تندَّمون .

قال ابن خالويه : «تَفَكَّه » تعجَّب ، و«تَفَكَّن » تندَّم .

وفي الحديث : «مثلُ العالم كمثل الحمَّة ، يأتيها البُعدَاءُ ويترُكُهَا القُربَاءُ ، فَبَيْنَا هُم إذ غَارَ ماؤهَا فانتفع به قومٌ ، وبَقِي قومٌ يتفكَّنُون » ، أي : يتندَّمُون{[55000]} .

قال الفرَّاء{[55001]} : والنون ، لغة عكل .

وفي الصحاح{[55002]} : «التَّفَكُّن » التندُّم على ما فات .

وقيل : التفكُّه : التكلُّم فيما لا يعنيك .

ومنه قيل للمزاح : فُكاهة بالضَّم .

فأما الفَكَاهة - بالفتح - فمصدر «فَكِهَ الرَّجل » بالكسر ، فهو فَكِهٌ إذا كان طيّب النفس مزَّاحاً{[55003]} .


[54988]:ينظر الكشاف 4/466.
[54989]:ينظر: الفخر الرازي 29/158.
[54990]:الكشاف 4/466.
[54991]:التفسير الكبير 29/158.
[54992]:ينظر: النكت والعيون 5/460.
[54993]:ينظر: القرطبي 17/142.
[54994]:آية 97.
[54995]:وقرأ بها عبد الله كما في المحرر الوجيز، 5/249، والبحر المحيط 8/211، والدر المصون 6/264.
[54996]:السابق.
[54997]:سقط من ب.
[54998]:ينظر: الدر المصون 6/264.
[54999]:ينظر: البحر المحيط 8/211، والدر المصون 6/264.
[55000]:ينظر: الكشاف 4/466، والدر المصون 6/264.
[55001]:ذكر القرطبي 17/219.
[55002]:ينظر المعجم الوسيط 2/699.
[55003]:ينظر: القرطبي 17/142.