{ إلا بالحق } أي خلقنا متلبسا بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية ، والحكمة الربانية . { وأجل مسمى } أي وإلا بتقدير أمد معين لبقاء هذه المخلوقات نفتى في نهايته ؛ وذلك عند قيام الساعة . والأجل : المدة المضروبة للشيء . { والذين كفروا عما أنذروا } من قيام الساعة وحدوث أهوالها والبعث في اليوم الآخر والجزاء{ معرضون } .
وأقام تعالى الأدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب والهرب من المرهوب ، ولهذا قال هنا : { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ } أي : لا عبثا ولا سدى بل ليعرف العباد عظمة خالقهما ويستدلوا على كماله ويعلموا أن الذي خلقهما على عظمهما قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء وأن خلقهما وبقاءهما مقدر إلى { أَجَلٍ مُسَمًّى }
فلما أخبر بذلك -وهو أصدق القائلين وأقام الدليل وأنار السبيل أخبر -مع ذلك- أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضا عن الحق ، وصدوفا عن دعوة الرسل فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ } وأما الذين آمنوا فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم ، وتلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالانقياد والتعظيم ففازوا بكل خير ، واندفع عنهم كل شر .
" ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق " تقدم أيضا . " وأجل مسمى " " وأجل مسمى " يعني القيامة ، في قول ابن عباس وغيره . وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض . وقيل : إنه هو الأجل المقدور لكل مخلوق . " والذين كفروا عما أنذروا معرضون " " والذين كفروا عما أنذروا " خُوفوه " معرضون " مولون لاهون غير مستعدين له . يجوز أن تكون " ما " مصدرية ، أي عن إنذارهم ذلك اليوم .
ولما ثبت في الجاثية مضمون قوله تعالى في الدخان { وما خلقنا-{[58470]} السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } بما ذكر فيهما من الآيات و-{[58471]} المنافع والحكم ، أثبت هنا-{[58472]} مضمون ما بعد-{[58473]} ذلك بزيادة الأجل فقال دالاً على عزته وحكمته : { ما خلقنا } أي على ما لنا من العظمة الموجبة للتفرد بالكبرياء { السماوات والأرض } على ما فيهما من الآيات التي فصل بعضها في الجاثية . ولما كان من المقاصد هنا الرد على المجوس وغيرهم ممن ثبت خلقاً لغير الله قال{[58474]} : { وما بينهما } أي من الهواء المشحون بالمنافع وكل خير وكل شر{[58475]} من أفعال العباد وغيرهم ، وقال ابن برجان في تفسيره{[58476]} : جميع الوجود أوله وآخره نسخة لأم الكتاب والسماوات والأرض إشارة إلى بعض الوجود{[58477]} ، وبعضه يعطي من الدلالة على المطلوب ما يعطيه الكل بوجه ما ، غير أن ما علا أصح دلالة وأقرب شهادة وأبين إشارة ، وما صغر من الموجودات دلالته مجملة يحتاج المستعرض فيه إلى التثبت و{[58478]}تدقيق النظر{[58479]} والبحث - انتهى . { إلا بالحق } أي الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرف المطلق ، فخلق الباطل-{[58480]} بالحق لأنه{[58481]} تصرف في ملكه الذي لا شائبة لغيره فيه للابتلاء والاختبار للمجازاة بالعدل والمن بالفضل إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها سواه ، وفي خلق ذلك على هذا الوجه أعظم دلالة على وجود الحق سبحانه ، وأنه واحد لا شريك له ، ودل على قهره بقوله : { وأجل مسمى } أي لبعث الناس إلى دار القرار لفصل أهل الجنة من أهل النار ، وفناء الخافقين وما نشأ عنهما من الليل والنهار .
ولما كان التقدير : وأمرنا الناس بالعمل في ذلك الأجل بطاعتنا ووعدناهم عليها جنان{[58482]} النعيم ، فالذين آمنوا على ما أنذروا مقبلون ، ومن غوائله مشفقون ، فهم بطاعتنا عاملون ، عطف عليه ما السياق له من قوله : { والذين كفروا } أي ستروا من أعلام الدلائل ما لو خلوا أنفسهم وما فطرناها عليه لعلموه فهم لذلك{[58483]} { عما أنذروا } ممن هم عارفون {[58484]}بأن إنذاره{[58485]} لا يتخلف { معرضون * } ومن غوائله آمنون ، فهم بما يغضبنا فاعلون ، شهدت عندهم شواهد الوجود فما سمعوا لها ولا {[58486]}أصغوا إليها وأنذرتهم الرسل والكتب من عند الله فأعرضوا عنها واشمأزوا منها .