الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا} (12)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"ويُمْدِدْكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِينَ": ويعطكم مع ذلك ربكم أموالاً وبنين، فيكّثرها عندكم ويزيد فيما عندكم منها.

"ويَجْعَل لَكُمْ جَنّاتٍ": يرزقكم بساتين.

"ويَجْعَل لَكُمْ أنهارا" تسقون منها جناتكم ومزارعكم، وقال ذلك لهم نوح، لأنهم كانوا فيما ذُكر قوم يحبون الأموال والأولاد... عن قتادة، قوله: "ثُمّ إنّي دَعَوْتُهُمْ جِهارا..." إلى قوله: "ويَجْعَلْ لَكُمْ أنهارا" قال: رأى نوح قوما تجزّعت أعناقهم حرصا على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن فيها درك الدنيا والآخرة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 11]

{ويرسل السماء عليكم مدرارا} {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} فيحتمل أن ما قال هذا لأنهم كانوا في شدة عيش وضيق حال، فوعد أنهم إن انتهوا عن الكفر، وأجابوا إلى ما يدعوهم إليه غفر الله لهم ذنوبهم، وأرسل السماء عليهم مدرارا، فيتوسعوا به... ويحتمل أن يكونوا خافوا انقطاع النعمة عنهم والإجابة وزوال السعة عنهم بالإسلام، ومن الناس من يترك الإيمان خشية هذا، فأخبر الله عز وجل أن الذي هم فيه من رغد العيش لا ينقطع عنهم بالإسلام، بل يرسل عليهم المطر من السماء مدرارا متتابعا، ويمددهم بأموال وبنين مع ما يجعل لهم من الجنان والأنهار. لكن ذوي الألباب والعقلاء ينظرون إلى حسن العاقبة وما [عليه مآل الأمر] دون الحال، فذلك الذي يرغبهم فيه. ولذلك اختلفت دعوة النبي عليه السلام لأمته فمنهم من بشّره بكثرة أمواله وبنيه، ومنهم من رغبه في آخرته بقوله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}] يونس: 58] وقوله تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار} الآية [آل عمران: 15]. ونظير الأول كقوله عز وجل: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف: 96]. والأصل أن الرسل عليه السلام بعثوا مبشرين ومنذرين داعين زاجرين محتجين مدحضين؛ فبما يتلون عليهم من أنباء الأولين دخل فيه جميع الأوجه الثلاثة، إذ النذارة والبشارة مرة تقع بالابتداء ومرة بما ينزل بالمتقدمين المصدقين منهم والمكذبين: أن كيف كانت عواقب هؤلاء وهؤلاء. وكذلك الدعاء، والرحمة تكون مرة بابتداء الدعاء، والزجر يكون بذكر الأمم السالفة وأن الرسل كيف كانوا يدعونهم ثانيا، والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ويمددكم} أظهر لأن الموضع لإرادة المبالغة والبسط والسعة {بأموال وبنين} وذلك يفهم أن من أكثر الاستغفار حباه الله ما يسره، وحماه ما يضره {ويجعل لكم} أي في الدارين {جنات} أي بساتين عظيمة، وأعاد العامل للتأكيد والبسط لأن المقام له فقال: {ويجعل لكم أنهاراً} يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ما وعدهم برزقهم الآخر من الذرية التي يحبونها -وهي البنين- والأموال التي يطلبونها ويعزونها: يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا.. وقد ربط بين الاستغفار وهذه الأرزاق. وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله، وبين تيسير الأرزاق، وعموم الرخاء... جاء في موضع (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.. وجاء في موضع (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم... وجاء في موضع (ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله... وهذه القاعدة التي يقررها القرآن في مواضع متفرقة، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله، ومن سنة الحياة؛ كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون. والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد. وما من أمة قام فيها شرع الله، واتجهت اتجاها حقيقيا لله بالعمل الصالح والاستغفار المنبئ عن خشية الله.. ما من أمة اتقت الله وعبدته وأقامت شريعته، فحققت العدل والأمن للناس جميعا، إلا فاضت فيها الخيرات، ومكن الله لها في الأرض واستخلفها فيها بالعمران وبالصلاح سواء. ولقد نشهد في بعض الفترات أمما لا تتقي الله ولا تقيم شريعته؛ وهي -مع هذا- موسع عليها في الرزق، ممكن لها في الأرض.. ولكن هذا إنما هو الابتلاء: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) ثم هو بعد ذلك رخاء مؤوف، تأكله آفات الاختلال الاجتماعي والانحدار الأخلاقي، أو الظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

ولعلَّ هذا الربط بين الإيمان الذي يعبّر عنه الاستغفار، وبين إنزال الله هذه النعم التي تمثل حاجاتهم الحيوية العامة، ناشئ من أنَّ الإِيمان الخالص يجعل الناس موضع رحمة الله في ما ينزله عليهم من ألطافه وفيوضاته، مما قد يزيد من حجمها وامتدادها. كما أنّ الانحراف عن الله قد يجعل القضية في دائرة البلاء الذي قد يقلّل من نعم الله، ويؤدي إلى فساد الواقع في حياة الإنسان، وبذلك فإن نوحاً (ع) ربما كان يريد أن يثير في نفوس قومه قيمة العلاقة بالله من موقع الإيمان به في حياة الناس العامة على مستوى النعم التي يحتاجونها. وربما كان الأساس في ذلك هو الإيحاء لهؤلاء الناس الكافرين بأن الله هو وحده المهيمن على الكون كله في ما يشتمل عليه من الظواهر المتصلة بالحياة الإنسانية، ليرتبطوا به من موقع النعمة، كما يرتبطون به من موقع القدرة والعظمة، وقد أشار القرآن الكريم إلى الجانب الإيجابي في هذا المجال بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ} [الأعراف: 96] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ولأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 65- 66] وقوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ* وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 2 3]. أمَّا في الجانب السلبي، فقد جاء في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] وقوله تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وبهذا فإنّه وعدهم بنعمة معنوية كبيرة، وبخمس نعم أُخرى مادية كبيرة، والنعمة المعنوية الكبيرة هي غفران الذنوب والتطهير من درن الكفر والعصيان، وأمّا النعم المادية فهي هطول الأمطار المفيدة والمباركة في حينها، كثرة الأموال، كثرة الأولاد (الثروات الإنسانية)، الحدائق المباركة والأنهار الجارية.