الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا} (12)

الثانية- قوله تعالى : " يرسل السماء عليكم مدرارا " أي يرسل ماء السماء ، ففيه إضمار . وقيل : السماء المطر ، أي يرسل المطر . قال الشاعر{[15382]} :

إذا سقط السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غِضَابَا

و " مدرارا " ذا غيث كثير . وجزم " يرسل " جوابا للأمر . وقال مقاتل : لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فهلكت مواشيهم وزروعهم ، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به . فقال " استغفروا ربكم إنه كان غفارا " أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه . ثم قال ترغيبا في الإيمان : " يرسل السماء عليكم مدرارا . ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لكم أنهارا " . قال قتادة : علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال : ( هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة ) .

الثالثة- في هذه الآية والتي في " هود{[15383]} " دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار . قال الشعبي : خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فأمطروا فقالوا : ما رأيناك استسقيت ؟ فقال : لقد طلبت المطر بمجاديح{[15384]} السماء التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : " استغفروا ربكم إنه كان غفارا . يرسل السماء عليكم مدرارا " . وقال الأوزاعي : خرج الناس يستسقون ، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : اللهم إنا سمعناك تقول : " ما على المحسنين من سبيل " التوبة : 91 ] وقد أقررنا بالإساءة ، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا ؟ ! اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا ! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا . وقال ابن صبيح : شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له : استغفر الله . وشكا آخر إليه الفقر فقال له : استغفر الله . وقال له آخر . ادع الله أن يرزقني ولدا ، فقال له : استغفر الله . وشكا إليه آخر جفاف بستانه ، فقال له : استغفر الله . فقلنا له في ذلك ؟ فقال : ما قلت من عندي شيئا ، إن الله تعالى يقول في سورة " نوح " : " استغفروا ربكم إنه كان غفارا . يرسل السماء عليكم مدرارا . ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا " . وقد مضى في سورة " آل عمران{[15385]} " كيفية الاستغفار ، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب . وهو الأصل في الإجابة .


[15382]:هو معود الحكماء، معاوية بن مالك.
[15383]:راجع جـ 9 ص 51.
[15384]:قال ابن الأثير: "المجاديح" واحدها مجدح والياء زائدة للإشباع. والقياس أن يكون واحدها مجداح. والمجدح: نجم من النجوم، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر. فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه، لا قولا بالأنواء. وجاء بلفظ الجمع لأنه أراد الأنواء جميعا التي يزعمون أن من شأنها المطر.
[15385]:راجع جـ 4 ص 39.