الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارَۢا} (28)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فعم الدعاء بعد دعائه على الكفار، فقال: {رب اغفر لي ولوالدي} وكانا مسلمين.

{ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا} يعني العذاب مثل قوله: {وكلا تبرنا تتبيرا} [الفرقان:39] يعني دمرنا تدميرا. فأغرقهم الله تعالى.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ثم دعاه دعوة عامة فقال:"رَبّ اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيّ ولمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنا وَللْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ "إلى قوله: "تَبارا".

"رَبّ اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيّ": ربّ اعف عني، واستر عليّ ذنوبي. وعلى والديّ.

"ولِمَنْ دَخَلَ بَيِتيَ مُؤْمِنا": ولمن دخل مسجدي ومصلايَ مصلّيا مؤمنا، يقول: مصدّقا بواجب فرضك عليه.

" وللْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ": وللمصدّقين بتوحيدك والمصدّقات...

" وَلا تَزِدِ الظَالِمِينَ إلاّ تَبارا": ولا تزد الظالمين أنفسهم بكفرهم إلا خسارا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

هكذا الواجب على المرء في الدعاء والاستغفار؛ أن يبدأ بنفسه ثم بوالديه ثم بالمؤمنين.

ثم قوله: {بيتي} قال بعضهم: أي في سفينتي،

وقال بعضهم: {بيتي} أي في ديني، فيكون البيت كناية عن الدين،

وقال بعضهم: إنما هو بيته الذي يسكن فيه لما أطلعه الله تعالى أن من دخل بيته مؤمنا لا يعود إلى الكفر.

ثم إن أرجى الأمور للمؤمنين في الآخرة دعاء الأنبياء والملائكة عليهم السلام في الدنيا، لأنهم إنما يدعون بعد الإذن لهم بالدعاء، ولا يحتمل أن يأذن الله تعالى لهم بالدعاء، ثم لا يجيب دعوتهم.

{ولا تزد الظالمين إلا تبارا} قيل: كسرا وذلا وصغارا، فإنه مشتق من التبر، وكل مكسور يقال: تبر، فكأنه يقول: اكسر منعة الظالمين وشوكتهم. فإن كان التأويل هذا، فهو يقع على جميع الظلمة: من كان في وقته ومن بعده.

وقيل: التبار: الهلاك، فإن كان هذا معناه فهو على ظالمي زمانه؛ إذ لا يجوز للأنبياء عليهم السلام أن يدعوا على قوم إلا أن يؤذن لهم بالدعاء عليهم. وإنما جاء الإذن في حق قومه. فأما في حق غيرهم، لم يثبت، فلا يجوز القول فيه إلا بما تواتر الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقال بعض العلماء: إن الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته أهل الأرض الكفار لجدير أن يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

من أجل هذا دعا نوح -عليه السلام- دعوته الماحقة الساحقة. ومن أجل هذا استجاب الله دعوته، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر؛ وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير. وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول: (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) -أي هلاكا ودمارا- إلى جانب هذا كان الابتهال الخاشع الودود: (رب اغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي مؤمنا، وللمؤمنين والمؤمنات...).. ودعاء نوح النبي لربه أن يغفر له.. هو الأدب النبوي الكريم في حضرة الله العلي العظيم.. أدب العبد في حضرة الرب. العبد الذي لا ينسى أنه بشر، وأنه يخطئ، وأنه يقصر، مهما يطع ويعبد، وأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله بفضله، كما قال أخوه النبي الكريم محمد [صلى الله عليه وسلم] وهذا هو الاستغفار الذي دعا قومه العصاة الخاطئين إليه، فاستكبروا عليه.. وهو هو النبي يستغفر بعد كل هذا الجهد وكل هذا العناء. يستغفر وهو يقدم لربه سجل الحساب! ودعاؤه لوالديه.. هو بر النبوة بالوالدين المؤمنين -كما نفهم من هذا الدعاء- ولو لم يكونا مؤمنين لروجع فيهما كما روجع في شأن ولده الكافر الذي أغرق مع المغرقين [كما جاء في سورة هود]. ودعاؤه الخاص لمن دخل بيته مؤمنا.. هو بر المؤمن بالمؤمن؛ وحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه، وتخصيص الذي يدخل بيته مؤمنا، لأن هذه كانت علامة النجاة، وحصر المؤمنين الذين سيصحبهم معه في السفينة. ودعاؤه العام بعد ذلك للمؤمنين والمؤمنات.. هو بر المؤمن بالمؤمنين كافة في كل زمان ومكان. وشعوره بآصرة القربى على مدار الزمن واختلاف السكن. وهو السر العجيب في هذه العقيدة التي تربط بين أصحابها برباط الحب الوثيق، والشوق العميق، على تباعد الزمان والمكان. السر الذي أودعه الله هذه العقيدة، وأودعه هذه القلوب المربوطة برباط العقيدة.. وفي مقابل هذا الحب للمؤمنين، كان الكره للظالمين. (ولا تزد الظالمين إلا تبارا).

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جعل الدعاء لنفسه ووالديه خاتمة مناجاته فابتدأ بنفسه ثم بأقرب الناس به وهما والده، ثم عمّم أهله وذويه المؤمنين فدخل أولاده وبنوهم والمؤمنات من أزواجهم وعبر عنهم بمن دخل بيته كناية عن سكناهم معه، فالمراد بقوله {دخل بيتي} دخول مخصوص وهو الدخول المتكرر الملازم. ومنه سميت بطانة المرء دَخيلته ودُخْلَته، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات، ثم عاد بالدعاء على الكفرة بأن يحرمهم الله النجاح وهو على حد قوله المتقدم.

{ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً} [نوح: 24]. والتبَار: الهلاك والخسار، فهو تخصيص للظالمين من قومه بسؤال استئصالهم بعد أن شملهم وغيرهم بعموم قوله: {لا تَذر على الأرض من الكافرين ديّاراً} [نوح: 26] حرصاً على سلامة المجتمع الإِنساني من شوائب المفاسد وتطهيره من العناصر الخبيثة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثمّ يدعو نوح (عليه السلام)، لنفسه ولمن آمن به فيقول: (ربّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً). طلب المغفرة هذا من نوح (عليه السلام) كأنّه يريد أن يقول إنني وإن دعوت قومي مئات السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة، ولكن يمكن أن يكون قد صدر منّي ترك الأولى، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا أُبرئ نفسي أمام اللّه تعالى. هذا هو حال أولياء اللّه، فإنّهم يجدون أنفسهم مقصرين مع كلّ ما يلاقونه من محن ومصاعب، ولهذا تجدهم غير مبتلين بآفات الغرور والتكبر، وليس كالذين يتداخلهم الغرور عند إتمامهم لعمل، ما يمنون به على اللّه تعالى، ويطلب نوح (عليه السلام) المغفرة لعدّة أشخاص وهم: الأوّل: لنفسه، لئلا يكون قد مرّ على بعض الأُمور المهمّة مروراً سريعاً، ولم يعتن بها. الثّاني: لوالديه، وذلك تقديراً لما تحمّلاه من متاعب ومشقّة. الثّالث: لمن آمن به، وإن كانوا قلائل، الذين اصطحبوه في سفينته التي كانت بمثابة الدار له (عليه السلام). الرّابع: للمؤمنين والمؤمنات على مرّ العصور، ومن هنا يوثق نوح (عليه السلام) العلاقة بينه وبين عموم المؤمنين في العالم، ويؤكّد في النهاية على هلاك الظالمين، وأنّهم يستحقون هذا العذاب لما ارتكبوه من ظلم.

ختام السورة:

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وتختم السورة، وقد عرضت تلك الصورة الوضيئة لجهاد النبي الكريم نوح عليه السلام. وتلك الصورة المطموسة لإصرار المعاندين الظالمين.. وقد تركت هذه وتلك في القلب حبا لهذا الروح الكريم وإعجابا بهذا الجهاد النبيل، وزادا للسير في هذا الطريق الصاعد، أيا كانت المشاق والمتاعب. وأيا كانت التضحيات والآلام. فهو الطريق الوحيد الذي ينتهي بالبشرية إلى أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض. حين ينتهي بها إلى الله، العلي الأعلى، الجليل العظيم..

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

كيف نستوحي السورة؟ وتبقى للدعاة إلى الله، العاملين في سبيله، مسألة العبرة التي تفتح قلوبهم على مواقع الثبات على الحق، وآفاق الحركة في ساحات الصراع والامتداد في التجربة إلى أبعد مدًى، حتى لا يبقى هناك أيّ مجال لتجربةٍ جديدةٍ ولأمل أخضر. فلا موقع لليأس في طريق العاملين المخلصين، لأن مسألة الأمل ليست شيئاً يأخذونه من زوايا الواقع المحدود الذي يحاصرهم في حدوده وحواجزه، بل هي شيء يستمدّونه من إيمانهم بالله الذي يجعل للمتّقين المخرج حيث لا مخرج، وللمحرومين الرزق من حيث لا يحتسبون، وللمجاهدين النصر من حيث لا ينتظرون. هذا بالإضافة إلى أن مسألة الدعوة ليست حالةً ذاتيةً مزاجيّةً لتخضع للنوازع النفسية والطوارئ العابرة، بل هي حالةٌ رساليةٌ متصلةٌ بالله، في ما يستهدفه الإنسان من خلالها من رضى الله، فلا مشكلة لديه إذا كان الله راضياً عنه، حتى في أشد ساعات الشدة، فهو الغاية في كل عمل، والهدف الكبير في كل شيء.