الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ} (124)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وإذا ما أنزلت سورة} على النبي صلى الله عليه وسلم، {فمنهم}، من المنافقين، {من يقول أيكم زادته هذه} السورة {إيمانا}، يعني تصديقا مع تصديقه بما أنزل الله عز وجل من القرآن من قبل هذه السورة، {فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} بنزولها...

تفسير الشافعي 204 هـ :

قال الله جل ذكره: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّنْ يَّقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيـمَانا فَأَمَّا اَلذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتْهُمُ إِيـمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا اَلذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا اِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ـامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}؛ ولو كان هذا الإيمان كله واحدا لا نقصان فيه ولا زيادة، لم يكن لأحد فيه فضل، واستوى الناس، وبطل التفضيل. ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله في الجنة، وبالنقصان من الإيمان دخل المفرطون النار...

إن الله عز وجل سابق بين عباده كما سوبق بين الخيل يوم الرهان. ثم إنهم على درجاتهم من سبق عليه، فجعل كل امرئ على درجة سبقه، لا ينقصه فيها حقه، ولا يقدم مسبوق على سابق، ولا مفضول على فاضل. وبذلك فضل أول هذه الأمة على آخرها. ولو لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطا عنه، للحق أخر هذه الأمة بأولها. (مناقب الشافعي: 1/393.)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل الله سورة من سور القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله في هذه السورة من يقول: أيها الناس أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ يقول تصديقا بالله وبآياته. يقول الله: فأما الذين آمنوا من الذين قيل لهم ذلك، فزادتهم السورة التي أنزلت إيمانا وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الإيمان واليقين.

فإن قال قائل: أو ليس الإيمان في كلام العرب التصديق والإقرار؟ قيل: بلى. فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقا وإقرارا؟ قيل: زادتهم إيمانا حين نزلت، لأنهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرض الإقرار بها والعمل بها بعينها إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحقّ، فلما أنزل الله السورة لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله، ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه، فكان ذلك هو الزيادة التي زادهم نزول السورة حين نزلت من الإيمان والتصديق بها...

عن ابن عباس قوله:"وَإذَا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمانا" قال: كان إذا نزلت سورة آمنوا بها، فزادهم الله إيمانا وتصديقا، وكانوا يستبشرون.

... عن الربيع، في قوله: "فَزَادَتْهُمْ إيمَانا "قال: خشية.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يعني: يقول المنافقون بعضهم لبعض إذا خلوا عن المؤمنين (أيكم زادته هذه إيمانا) استهزاء منهم بها وسخرية.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

... {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بنزول القرآن...

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

...

.

المسألة الثامنة: في دخول العمل في مسمى الإيمان.

قال ابن حزم: أصل الإيمان في اللغة: التصديق بالقلب وباللسان معا، بأي شيء صدق المصدق، لا شيء دون شيء البتة. إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة، لا على العقد لكل شيء. وأوقعها أيضا تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة، لا بما سواها. وأوقعها أيضا على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط، فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به، وهو تعالى خالق اللغة وأهلها، فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على الأشياء. فمن الآيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز وجل: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} وقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا}.

فإن قال قائل: معنى زيادة الإيمان هاهنا إنما هو لما نزلت تلك الآية صدقوا فزادهم بنزولها إيمانا وتصديقا بشيء وارد لم يكن عندهم.

قيل لهم: -وبالله تعالى التوفيق – هذا محال؛ لأنه قد اعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام في المستأنف، فلم يزدهم نزول الآية تصديقا لم يكونوا اعتقدوه. فصح أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل الذي لم يكونوا عملوه، ولا عرفوه ولا صدقوا به قط، ولا كان جائزا لهم أن يعتقدوه ويعملوا به، بل كان فرضا عليهم تركه والتكذيب بوجوبه، والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواه، ولا عدد للاعتقاد ولا كمية، وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط. اه.

المسألة التاسعة: في زيادة الإيمان ونقصانه.

قال ابن حزم: كل ذلك (أي الإيمان والإسلام) عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

قال الله عز وجل: {إن الدين عند الله الإسلام} فصح أن الدين هو الإسلام، وقد صح أن الإسلام هو الإيمان، فالدين هو الإيمان، والدين ينقص بنقص الإيمان ويزيد، وبالله تعالى التوفيق. اه.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

...والزيادة: ضم الشيء إلى جنسه، لأنك لو ضممت حجرا إلى ذهب لم تكن زدت، ولو ضممت ذهبا إلى ذهب أو حجرا إلى حجر لكنت زدته.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

جَعَلَ الله -سبحانه- إنزالَ القرآن لقومٍ شِفَاءً. ولقوم شَقَاءً؛ فإِذا أُنْزِلَتْ سورةٌ جديدةٌ زاد شكُّهم وتحيُّرهم، فاستعلم بعضُهم حالَ بعضٍ، ثم لم يزدادوا إلا تحسُّراً؛ قال تعالى: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] وأمَّا المؤمنون فزادتْهم السورةُ إيماناً فارتقوا مِنْ حدِّ تأمل البرهان إلى روْح البيان، ثم مِنْ روْح البيان إلى العيان، فالتجويز والتردد والتحيُّر مُنْتَفًى بأجمعه عن قلوبهم..

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ} فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه} السورة {إيمانا} إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به... {فأما الذين آمنوا فَزَادَتْهُمْ إيمانا} لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملاً، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه الآية نزلت في شأن المنافقين، والضمير في قوله {فمنهم} عائد على المنافقين، وقوله تعالى {أيكم زادته هذه إيماناً} يحتمل أن يكون لمنافقين مثلهم، ويحتمل أن يكون لقوم من قراباتهم من المؤمنين يستنيمون إليهم ويثقون بسترهم عليهم، ويطمعون في ردهم إلى النفاق، ومعنى {أيكم زادته هذه إيماناً} الاستخفاف والتحقير لشأن السورة كما تقول: أي غريب في هذا أو أي دليل، ثم ابتدأ عز وجل الرد عليهم والحكم بما يهدم لبسهم؛ فأخبر أن المؤمنين الموقنين قد «زادتهم إيماناً» وأنهم {يستبشرون} من ألفاظها ومعانيها برحمة الله ورضوانه. والزيادة في الإيمان موضع تخبط للناس وتطويل، وتلخيص القول فيه أن الإيمان الذي هو نفس التصديق ليس مما يقبل الزيادة والنقص في نفسه، وإنما تقع الزيادة في المصدق به، فإذا نزلت سورة من الله تعالى حدث للمؤمنين بها تصديق خاص لم يكن قبل، فتصديقهم بما تضمنته السورة من إخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل، فهذا وجه من زيادة الإيمان، ووجه آخر أن السورة ربما تضمنت دليلاً أو تنبيهاً عليه فيكون المؤمن قد عرف الله بعدة أدلة، فإذا نزلت السورة زادت في أدلته، وهذه أيضاً جهة أخرى من الزيادة، وكلها خارجة عن نفس التصديق إذا حصل تاماً، فإنه ليس يبقى فيه موضع زيادة، ووجه آخر من وجوه الزيادة أن الرجل ربما عارضه شك يسير أو لاحت له شبهة مشغبة، فإذا نزلت السورة ارتفعت تلك الشبهة واستراح منها، فهذا أيضاً زيادة في الإيمان إذ يرتقي اعتقاده عن مرتبة معارضة تلك الشبهة إلى الخلوص منها، وأما على قول من يسمي الطاعات إيماناً وذلك مجاز عند أهل السنة فتترتب الزيادة بالسورة إذ تتضمن أوامر ونواهي وأحكاماً. وهذا حكم من يتعلم العلم في معنى زيادة الإيمان ونقصانه إلى يوم القيامة، فإن تعلم الإنسان العلم بمنزلة نزول سورة القرآن.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...ما يحصل لهم من الاستبشار؛ فمنهم من حمله على ثواب الآخرة، ومنهم من حمله على ما يحصل في الدنيا من النصر والظفر، ومنهم من حمله على الفرح والسرور الحاصل بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل به إلى مزيد في الثواب.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

... وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول "شرح البخاري "رحمه الله، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} أي: زادتهم شكا إلى شكهم، وريبا إلى ريبهم، كما قال تعالى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذه الآيات الأربع آخر ما نزل في المنافقين، وتأثير نزول القرآن فيهم وفي المؤمنين، ومن أقام الدليل على اليأس من إيمانهم، وإخبار الله بموتهم على كفرهم.

{وإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} كلمة "ما "بعد "إذ" تفيد التأكيد لمضمون شرطها، يعني وإذ تحقق إنزال الله تعالى على رسوله سورة من القرآن.

{فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} أي فمن المنافقين من يتساءل مع إخوانه للاختبار، أو مع من يلقاه من المسلمين كافة للتشكيك، قائلا: أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ أي يقينا بحقية القرآن والإسلام، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن في كل سورة من القرآن آيات على صدقه صلى الله عليه وسلم بما فيها من ضروب الإعجاز العامة الدالة على أنها من عند الله تعالى، وكون محمد صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يأتي بمثلها من تلقاء نفسه، فالسؤال عن الإيمان بأصل الإسلام وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله عزّ وجلّ، وهو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وخضوع الوجدان الذي يستلزم العمل، لا مجرد اعتقاد صدق الخبر، الذي يقابله اعتقاد كذبه، فإن أشد الناس كفرا أولئك المصدقون الجاحدون الذين قال الله لرسوله فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، ومثله قوله: {وجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوّاً} [النمل: 14]، ولا شك أن الإيمان بمعناه الذي قلناه يزيد بنزول القرآن في عهد الرسول، وناهيك بمن يحضر نزوله عليه ويسمعه منه، وكذا يزيد بتلاوته وبسماعه من غيره أيضا ثباتا في قلب المؤمن، وقوة إذعان، وصدق وجدان، ورغبة في العمل والقرب من الله.

قال الله تعالى في جواب هذا السؤال وهو العليم الخبير: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} فأثبت تعالى للمؤمن زيادة الإيمان بزيادة نزول القرآن، وهو يشمل الزيادة في حقيقته وصفته من اليقين والإذعان واطمئنان القلب، وفي متعلقه وهو ما في السورة من مسائل العلم، وفي أثره من العمل والتقرب إلى الرب. وإنما يتساءل المنافقون عن الأول وهو الذي يفقدونه، وإنما غيره تابع له.

{وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي والحال أنهم يسرون بنزولها، وتستدعي زيادة الإيمان في قلوبهم البشرى، والارتياح بما يرجون من خير هذه الزيادة بتزكية أنفسهم، وأثر ذلك في أعمالهم في الدنيا والآخرة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وقبيل ختام السورة التي تكلمت طويلا عن المنافقين، تجيء آيات تصور طريقة المنافقين في تلقي آيات الله وفي استقبال تكاليف هذه العقيدة التي يتظاهرون بها كاذبين؛ وإلى جانبها صورة الذين آمنوا وتلقيهم لهذا القرآن الكريم: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول: أيكم زادته هذه إيمانا؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون؛ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؟ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا. صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون)..

والسؤال في الآية الأولى: (أيكم زادته هذه إيمانا؟).. سؤال مريب، لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه. وإلا لتحدث عن آثارها في نفسه، بدل التساؤل عن غيره...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وهذه الآية زيدت فيها (ما) عَقب (إذا) وزيادتها للتأكيد، أي لتأكيد معنى (إذَا) وهو الشرط، لأن هذا الخبر لغرابته كان خليقاً بالتأكيد، ولأن المنافقين ينكرون صدوره منهم بخلاف الآية السابقة لأن مضمونها حكاية استيذانهم وهم لا ينكرونه.

ولم يذكر في هذه الآية إجمال ما اشتملت عليه السور التي أنزلت كما ذكر في قوله: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله} [التوبة: 86]. ووجه ذلك أن سور القرآن كلها لا تخلو عن دعاء إلى الإيمان والصالحات والإعجاز ببلاغتها. فالمراد إذا أنزلت سورة مَّا من القرآن.

وضمير {فمنهم} عائد إلى المنافقين للعلم بالمعاد من المقام ومن أواخر الكلام في قوله: {وأما الذين في قلوبهم مرض}، ولما في قوله قبل هذا: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} [التوبة: 123] من التعريض بالمنافقين كما تقدم، فالمنافقون خاطرون بذهن السامع فيكون الإتيان بضمير يعود عليهم تقوية لذلك التعريض.

ولما كان الاستفهام في قولهم: {أيّكم} للاستهزاء كان متضمناً معنى إنكار أن يكون نزول سور القرآن يزيد سامعيها إيماناً توهماً منهم بأن ما لا يزيدهم إيماناً لا يزيد غيرهم إيماناً، يقيسون على أحوال قلوبهم.

والفاء في قوله: {فأما الذين آمنوا} للتفريع على حكاية استفهامهم بحملهِ على ظاهر حاله وصرفه عن مقصدهم منه. وتلك طريقة الأسلوب الحكيم، وهو: تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده لنكتة، وهي هنا إبطال ما قصدوه من نفي أن تكون السورة تزيد أحداً إيماناً قياساً على أحوال قلوبهم فأجيب استفهامهم بهذا التفصيل المتفرع عليه، فأثبت أن للسورة زيادة في إيمان بعض الناس وأكثرَ من الزيادة، وهو حصول البشر لهم.

وارتُقِيَ في الجواب عن مقصدهم من الإنكار بأن السورة ليست منفياً عنها زيادة في إيمان بعض الناس فقط بل الأمر أشد إذ هي زائدة في كفرهم، فالقِسم الأول المؤمنون زادتهم إيماناً وأكسبتهم بشرى فحصل من السورة لهم نفعان عظيمان، والقسم الثاني الذين في قلوبهم مرض زادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون.

فالوجه أن تكون جملة {وهم يستبشرون} معطوفة على جملة: {فزادتهم إيماناً} وأن تكون جملة: {وماتوا وهم كافرون} معطوفة على جملة: {فزادتهم رجساً} لأن مضمون كلتا الجملتين مما أثرته السورة. أما جملة: {وهم كافرون} فهي حال من ضمير {ماتوا}. وقوبل قوله: {وهم يستبشرون} في جانب المؤمنين بقوله: {وماتوا وهم كافرون} في جانب المنافقين تحسيناً بالازدواج، بحيث كانت للسورة فائدتان للمؤمنين ومصيبتان على المنافقين، فجُعل موتهم على الكفر المتسبب على زيادة السورة في كفرهم بمنزلة مصيبة أخرى غير الأولى وإن كانت في الحقيقة زيادة في المصيبة الأولى.

والاستبشار: أثر البشرى في النفس، فالسين والتاء للتأكيد مثل استعجم، وتقدم في قوله تعالى: {يستبشرون بنعمة من الله} في آل عمران (171)، وتقدم آنفاً في قوله: {فاستبشروا ببيعكم} [التوبة: 111]. والمراد بزيادة الإيمان وبزيادة الرجس الرسوخ والتمكن من النفس.

والرجس: هنا الكفر. وأصله الشيء الخبيث. كما تقدم عند قوله تعالى: {رجس من عمل الشيطان} في سورة العقود (90). وقوله: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} في سورة الأنعام (125).

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... وهنا يقول الحق: {وإذا ما أنزلت سورة} والسورة: هي الطائفة من القرآن المسور بسور خاص؛ أو مثلا: {بسم الله الرحمان الرحيم} وآخره تأتي بعده سورة أخرى تبدأ بقوله الحق: {بسم الله الرحمان الرحيم} ومأخوذة من السور الذي يحدد المكان. وهل المقصود بقوله الحق هنا نزول سورة كاملة من القرآن أو نزول بعض من القرآن؟ فإن المقصود هو نزول بعض من القرآن.

وتتابع الآية: {فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} والمقصود بهذا المنافقون الدين رجعوا عن الإيمان. ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند الله وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء النفس، وقد سمعه الكفار من قبل، وشهدوا له 38، أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم.

وهذا الأمر بسبب الاستعداد لتلقيه؛ لأن المسألة في كل الأحداث ليست من الفاعل وحده، ولكنى من الفاعل والقابل للفعل-ولله المثل الأعلى- أنت تأتي بمطرقة مثلا، وتطرق قطعة حديد فترق وتزيد مساحتها، وأما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة؛ فلن تؤثر فيها.

إذن: فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر، وهكذا لا بد للفاعل من قابل، والمطلوب من القابل للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه. فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج ما في قلبه مما هو ضد القرآن، ويضع القرآن وضده خارج قلبه وليسمع هذا وهذا وما ينفذ إلى قلبه بعد هذا فليصدقه. لكن أن يستقبل القرآن بما في قلبه من كراهية القرآن؛ فلن يتأثر له، مثلما قابل بعض المنافقين القرآن وقالوا: لم نتأثر به.

وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز، وعدم التداخل في الحيز، فالقلب حيز لا يسع الشيء ونقيضه، فلا تملأ قلبك ببغضك للدين، ثم تقول: لقد سمعت القرآن ولم يؤثر فيّ...

إذن: فأخرج ما يناقص الحق من قلبك، واجعل الباطل والحق خارجا، ثم استقبل الإثنين، لا يمكن لك في مثل هذه الحالة إلا أن تستقبل 39 الحق. ويصف سبحانه المصرِّين على الكفر: {وطبع الله على قلوبهم} (التوبة 93)

أي: أن ما هو خارج هذه القلوب لا يدخل إليها، وما في داخلها لا يخرج منها، إذن: ما دام الحق قد ختم على قلوبهم؛ فلن تنفتح هذه القلوب للإيمان وستظل محتفظة بالكفر. فإذا كان من هؤلاء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن، ولا يأسره بيانه؛ فذلك بسبب عجزهم عن النظر إلى ما فيه من معان وقيم 40؛ لأن الإنسان حينما يسمع القرآن، وتكون نفسه صافية ليس فيها ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه...

إذن: لا بد أن تخرج ما في ذهنك أولا؛ لتستقبل القرآن. فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن بصفاء. أما الكافرون والمنافقون، فمنهم من يقول: {أيكم زادته هذه إيمانا} وتعطينا الآية معنى أننا أمام فريقين: واحد يقرأ، والثاني يسمع. ونفهم من سياق الآية أن الذي يتساءل مثل هذا السؤال إنما يوجهه لفريقين: أحدهما من ضعاف الإيمان، أو حديثي الإسلام، أو المنافقين، وهؤلاء هم الذين لم يخرجوا الكفر أو بعضه من قلوبهم، وقابلية بعضهم لاستقبال الإيمان لم تتأكد بعد، ومنهم من قال فيهم الحق:

{ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا} (محمد 16)

ويقول: {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} (فصلت 44).

إذن: الفاعل شيء، والقابل شيء آخر؛ هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول: {وإذا ما أنزلت سورة} وسياق الآية يوحي لنا أن هناك همسا من بعضهم: {أيكم زادته هذه إيمانا} وهذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئا عنده، ولم ينقص، وهو يهمس لمنافق مثله، أو لضعيف الإيمان {أيكم زادته هذه إيمانا} فيرد الله على القضية النفسية، ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين: قسم كافر أو منافق، وهذا القسم يزيده القرآن كفرا، أما القسم المؤمن؛ فاستقباله للقرآن يزيده من إيمانه.

إذن: الفاعل شيء والقابل مختلف. ووقف العلماء أمام هذه الآية موقفا فيه اختلاف بينهم {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} فقال بعضهم: إن الإيمان ينقص ويزيد، وقال بعضهم: إن الإيمان لا ينقص ولا يزيد، وقامت معركة بين علماء الكلام، ولا تتسرب معركة بين عقلاء إلا إذا كانت جهة الفهم في الأمر الذي يختلفون فيه منفكة، فمنهم من يذهب فكره إلى ناحية، ومنهم من يتجه فكره إلى ناحية أخرى.

فالذين قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلحظة أن يتألق الإيمان في القلب؛ يستقر فيه، وهو الإيمان بالله وأن الله لا إله إلا الله ولا معبود سواه، وأن محمدا رسول الله المبلغ عنه؛ هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمثال: هو قول الإمام علي كرم الله وجهه: لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا.

أما العلماء الذين قالوا بأن الإيمان يزيد وينقص، فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات الإيمان من الآيات، فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمنا بالله أولا، ثم ينفذ متطلبات الآية.

وكل المسلمين مؤمنون بالله، ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق ثلاثين، أما أصل الإيمان الذي استقبل به الإنسان التكليف وهو التوحيد، فلا يزيد ولا ينقص. وهؤلاء المنافقون عندما قالوا: {أيكم زادته هذه إيمانا} هل تداولوا ذلك سرا أم قالوه علنا؟ لا بد أنهم قالوا ذلك سرا وفضحهم الحق سبحانه، وكان يكفي أن يعلموا أن الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما يكتمونه، ولكنهم احترفوا اللجاجة؛ لذلك قالوا: {أيكم زادته هذه إيمانا}.

ويرد الحق سبحانه: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} و "يستبشر "أي ": يملأ السرور بشرته، فترى البريق، والفرحة، الانبساط. وكلها من علامات الاستبشار، ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو الذي يفهم من الآية شيئا جديدا؛ يدخل نفسه السرور؛ ولذلك فهو يرتاح لنزول تكليفات إيمانية جديدة، ليعظم ويزداد ثوابه، وهو غير ذلك يكره أن ينزل حكم جديد من الله.

هذا هو معنى "يستبشر".

أما الآخرون فيقول الحق سبحانه عنهم: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125)}.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذا هو أحد الأساليب التي كان يمارسها المنافقون في التهوين من شأن القرآن وإبطال أثره في نفوس الناس، ومحاولة الإيحاء لهم بأنه لا يمثل شيئاً في موضوع التنمية الروحية والتوعية الإيمانية، لأنه كلامٌ عادِيٌّ، تماماً كأيّ كلام آخر من كلام المخلوقين، وذلك من أجل إقناعهم بأنه ليس وحياً إلهيّاً في ما يعنيه الوحي من أسرار خارقةٍ للعادة من خلال ما يقتضيه من نتائج غير طبيعية على مستوى التغيير والتأثير.

ويجيب القرآن على هذا السؤال أو التساؤل، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} لأن المؤمنين يعيشون وعي الكلمة بطريقة مسؤولة، وبذلك ينفذون إلى عمق المعنى في حركته وامتداده، ويستلهمونه في أجواء إيحائيّةٍ لينطلقوا مع مفاهيمه في الهواء الطلق ليجسِّدوها واقعاً حيّاً في حياة الأفراد والجماعات، فيتفاعل ذلك مع الأفكار والمشاعر والمواقف، لتتحوّل إلى زيادةٍ نوعيّةٍ وكميّةٍ في حجم الإيمان في الداخل. {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} في ما يمثله الإيمان من الداخل، من حركة الشخصية في أكثر من مجال، على أساس هذا الفرح الروحي الذي يطوِّقهم من جميع الجهات، فيشعرون بالواقع كما لو كان بشارةً كبيرة في حجم هذا السؤال.