( علم الإنسان مالم يعلم ) بخلق القوى ، ونصب الدلائل ، وإنزال الآيات ، فيعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا ، وقد عدد سبحانه وتعالى مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهارا لما أنعم عليه من أن نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريرا لربوبيته ، وتحقيقا لأكرميته ، وأشار أولا إلى ما يدل على معرفته عقلا ، ثم نبه على ما يدل عليها سمعا .
وجملة : { علم الإنسان ما لم يعلم } خبر عن قوله : { وربك الأكرم } وما بينهما اعتراض .
وتعريف { الإنسان } يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الإِعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإِنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم .
وقد حصلتْ من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم إشارة إلى ما يتلقاه الإنسان من التعاليم سواء كان بالدرس أم بمطالعة الكتب وأن تحصيل العلوم يعتمد أموراً ثلاثة :
أحدها : الأخذ عن الغير بالمراجعة ، والمطالعة ، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر ونقلها إلى الأقطار النائية وفي الأجيال الجائية .
والثاني : التلقي من الأفواه بالدرس والإِملاء .
والثالث : ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات . وهذان داخلان تحت قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } .
وفي ذلك اطمئنان لنفس النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علّم الإنسان ما لم يعلم ، فالذي علّم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة .
وأشعر قوله : { ما لم يعلم } أن العلم مسبوق بالجهل فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يُعلَم من قبل ، أي فلا يُؤْيِسَنَّك من أن تصير عالماً بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف قراءة ما يكتب بالقلم . وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يُكتَب للنبيء صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن فمن أجل ذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً للوحي من مبدإ بعثته .
وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وصف مكمِّل لإعجاز القرآن قال تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] .
وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
علّم الإنسان الخطّ بالقلم ، ولم يكن يعلمه ، مع أشياء غير ذلك ، مما علمه ولم يكن يعلمه ....
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما : أن يكون أضاف ذلك إلى نفسه لما يخلق منهم فعل تعلمهم .
{ والثاني } : إضافته إليه للأسباب التي جعلها لهم في التعليم ، والله أعلم . ثم ذلك التعليم بالقلم لأمته لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه علمه إياه بلا كتابة ولا خط حين قال : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } ( العنكبوت : 48 ) .
ثم في تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا قلم ولا كتابة آية عظيمة لرسالته حين جعله بحال يحفظ بقلبه بلا إثبات ، ولا كتابة ، ولا خط خطه . ثم قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } يحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم....
ويحتمل قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } كل إنسان كقوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } ( النحل : 78 ) . ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَلَّمهم ما لم يعلموا : الضروريَّ ، والكسبيَّ . ...
يحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضا غير ذلك ولم يذكر واو النسق ، وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول : أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات ، ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحدا ويكون المعنى : علم الإنسان بالقلم ما لم يعلمه ، فيكون قوله : { علم الإنسان ما لم يعلم } بيانا لقوله : { علم بالقلم } . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ علّم } أي العلم الضروري والنظري { الإنسان } أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره ؛ بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه { ما لم يعلم } أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع ....
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{ علم الإنسان ما لم يعلم } أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا ، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ، وسيبلغك فيها مبلغا لم يبلغه سواك ، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئا ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تبرز مصدر التعليم . . إن مصدره هو الله . منه يستمد الإنسان كل ما علم ، وكل ما يعلم . وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود ، ومن أسرار هذه الحياة ، ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد ، الذي ليس هناك سواه .
وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالملأ الأعلى ، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة . .
كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه . وإليه تصير .
والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم ، ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . . ( علم الإنسان ما لم يعلم ) . .
وهذه الحقيقة القرآنية الأولى ، التي تلقاها قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره ، وتصرف لسانه ، وتصرف عمله واتجاهه ، بعد ذلك طوال حياته . بوصفها قاعدة الإيمان الأولى .
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : " زاد المعاد في هدى خير العباد " يلخص هدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في ذكر الله :
" كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكرا منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه ، وفي مشيته وركوبه ، وسيره ونزوله ، وظعنه وإقامته ...
وهكذا كانت حياته كلها [ صلى الله عليه وسلم ] بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى . وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وصف مكمِّل لإعجاز القرآن قال تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] . وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والمهمّ في الأمر أنّ هذه الآيات نزلت على نبيّ أمي لم يتعلم القراءة والكتابة وفي بيئة اجتماعية تسودها الأمية والجهل لتتحدث أوّل ما تتحدث عن العلم وعن القلم مباشرة بعد ذكر نعمة الخلق ! هذه الآيات تتحدث في الواقع أوّلاً عن تكامل «جسم» الإنسان من موجود تافه هو «العلقة» ، ثمّ عن تكامل «روحه» بواسطة التعليم والتعلّم خاصّة عن طريق القلم . حين نزلت هذه الآيات لم تكن بيئة الحجاز وحدها بل كان العالم المتحضر في ذلك العصر أيضاً لا يعير أهمية تذكر للقلم . أمّا اليوم فإنّنا نعلم أنّ القلم محور كل الحضارات والعلوم ....