قوله تعالى : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية ، قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد ، قالوا : يا محمد ، لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله ، فأنزل الله عز وجل : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } مكتوباً من عنده .
قوله تعالى : { فلمسوه بأيديهم } ، أي : عاينوه ومسوه بأيديهم ، وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة ، لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من المعاينة ، فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس .
قوله تعالى : { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } . معناه : أنه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي .
يقول تعالى مخبراً عن كفر المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهتتهم ومنازعتهم فيه : { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } أي : عاينوه ، ورأوا نزوله ، وباشروا ذلك { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن مكابرتهم للمحسوسات : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 ، 15 ] وقال تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] .
{ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس } مكتوبا في ورق . { فلمسوه بأيديهم } فمسوه ، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا ، ولأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع ، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله : { وإنا لمسنا السماء } { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } تعنتا وعنادا .
لما أخبر عنهم عز وجل بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية تبع ذلك إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا أيضاً ، والمعنى { لو نزلنا } بمرأى منهم عليك { كتاباً } أي كلاماً مكتوباً { في قرطاس } أي في صحيفة ، ويقال «قُرطاس » بضم القاف { فلمسوه بايديهم } يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا هذا سحر مبين ، ويشبه أن سبب هذه الآية اقتراح عبد الله بن أبي امية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية ، يأمرني بتصديقك ، وما أراني مع هذا كنت أصدقك ، ثم أسلم بعد ذلك عبد الله وقتل شهيداً في الطائف .
يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم } الخ ، وما بينهما جملاً تعلّقت بالجملة الأولى على طريقة الاعتراض ، فلمّا ذكر الآيات في الجملة الأولى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضحَ الآيات دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن ينزّل الله عليه كتاباً من السماء على صورة الكتب المتعارفة ، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لمَّا آمنوا ولادّعوا أنّ ذلك الكتاب سحر .
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير { كذّبوا } في قوله : { فقد كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم } أي أنكروا كون القرآن من عند الله ، وكونه آية على صدق الرسول ، وزعموا أنّه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء ، فإنّهم قالوا : { لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة } وقالوا { حتى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه } فكان قوله : { فقد كذّبوا بالحقّ لما جاءهم } مشتملاً بالإجمال على أقوالهم فصحّ مجيء الحال منه . وما بينهما اعتراض أيضاً .
وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفراً أم رسالة ، وعلى الثاني فالمراد بكتابٍ سفرٌ أي مثل التوراة .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لا محالة لأنّ كلّ كلام ينزل من القرآن موجّه إليه لأنّه المبلّغ ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الانتقال . وليس يلزم أن يكون المراد كتاباً فيه تصديقه بل أعمّ من ذلك .
وقوله : { في قرطاس } صفة لكتاب ، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه . والقرطاس بكسر القاف على الفصيح ، ونقل ضمّ القاف وهو ضعيف . وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رَقّ ومن بَرْدى ومن كاغد ، ولا يختصّ بما كان من كاغد بل يسمّى قرطاساً ما كان من رقّ . ومن النّاس من زعم أنّه لا يقال قرطاس إلاّ لما كان مكتوباً وإلاّ سمّي طَرساً ، ولم يصحّ . وسمّى العرب الأديم الذي يجعل غرضاً لمتعلّم الرمي قرطاساً فقالوا : سَدّد القرطاس ، أي سدّد رميه . قال الجواليقي : القرطاس تكلّموا به قديماً ويقال : إنّ أصله غير عربي . ولم يذكر ذلك الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس ، وأثبته الخفاجي في شفاء الغليل . وقال : كان معرّباً فلعلّه معرّب عن الرومية ، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم ( كارتا ) .
وقوله : { فَلَمسوه } عطف على { نزّلنا } . واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده ، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة ، ومن برودة أو حرارة ، أو نحو ذلك . فقوله : { بأيديهم } تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازاً في التأمّل ، كما في قوله تعالى : { وإنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئَت حرساً شديداً وشهباً } ، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب ، وللتمهيد لقوله : { لقال الذين كفروا إن هذا إلاّ سحر مبين } لأنّ المظاهر السحرية تخيّلات لا تلمس .
وجاء قوله : { الذين كفروا } دون أن يقول : لقالوا ، كما قال : { فلمسوه } إظهاراً في مقام الإضمار لقصد تسجيل أنّ دافعهم إلى هذا التعنّت هو الكفر ، لأنّ الموصول يؤذن بالتعليل .
ومعنى : { إن هذا إلاّ سحر مبين } أنّهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم . وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلّق بالمعاذير الكاذبة .
والمبين : البيّن الواضح ، مشتقّ من ( أبان ) مرادف ( بان ) . وتقدّم معنى السحر عند قوله تعالى : { يعلّمون الناس السحر } في سورة البقرة ( 102 ) .