قوله تعالى : { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } ، أي : ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وعذاب من كذبهم ، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ، أي : لم يكن يهلكهم بظلم ، أي : بشرك من أشرك . قوله تعالى : { وأهلها غافلون } ، لم يهلكوا حتى نبعث إليهم رسلاً ينذرونهم . وقال الكلبي : لم يهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرسل . وقيل : معناه لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل ، فيكون قد ظلمهم ، وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب ، وإنما يكون مذنباً إذا أمر فلم يأتمر ، ونهى فلم ينته ، وذلك يكون بعد إنذار الرسل .
يقول تعالى : { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } أي : إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، لئلا يعاقب أحد بظلمه ، وهو لم تبلغه دعوة ، ولكن أعذرنا إلى الأمم ، وما عذبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم ، كما قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا } [ الملك : 8 ، 9 ] والآيات في هذا كثيرة .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : ويحتمل قوله تعالى : { بِظُلْمٍ } وجهين :
أحدهما : ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه ، وهم غافلون ، يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم مَنْ{[11233]} ينبههم على حجج الله عليهم ، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا : { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] .
والوجه الثاني : أن { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ } يقول : لم يكن [ ربك ]{[11234]} ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر ، فيظلمهم بذلك ، والله غير ظلام{[11235]} لعبيده .
ثم شرع يرجح الوجه الأول ، ولا شك أنه أقوى ، والله أعلم{[11236]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ أَن لّمْ يَكُنْ رّبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ : أي إنما أرسلنا الرسل يا محمد إلى من وصفت أمره ، وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجنّ يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليّ ، من أجل أن ربك لم يكن مهلك القرى بظلم .
وقد يتجه من التأويل في قوله : «بظلم » وجهان : أحدهما : ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ : أي بشرك من أشرك ، وكُفْر من كفر من أهلها ، كما قال لقمان : إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . وأهْلُها غافِلُونَ يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلاً تنبههم على حجج الله عليهم ، وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه ، ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير .
والاَخر : ذَلِكَ أنْ لَمْ رَبّكَ يَكُنْ مُهْلِكَ القُرَى بظُلْمٍ يقول : لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والاَيات والعبر ، فيظلمهم بذلك ، والله غير ظلام للعبيد .
وأولى القولين بالصواب عندي القول الأوّل ، أن يكون معناه : أن لم يكن ليهلكهم بشركهم دون إرسال الرسل إليهم والإعذار بينه وبينهم ، وذلك أن قوله : ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ عقيب قوله : ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فكان في ذلك الدليل الواضح على أن نص قوله : ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ إنما هو إنما فعلنا ذلك من أجل أنا لا نهلك القُرَى بغير تذكير وتنبيه . وأما قوله : ذَلِكَ فإنه يجوز أن يكون نصبا ، بمعنى : فعلنا ذلك ، ويجوز أن يكون رفعا بمعنى الابتداء ، كأنه قال : ذلك كذلك . وأما «أن » فإنها في موضع نصب بمعنى : فعلنا ذلك من أجل أن لم يكن ربك مُهْلِك القرى ، فإذا حذف ما كان يخفضها تعلق بها الفعل فنصب .
وقوله تعالى : { ذلك أن لم يكن } الآية ، { ذلك } يصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره ذلك الأمر ، ويصح أن يكون في موضع نصب بتقدير فعلنا و { أن } مفعول من أجله و { القرى } المدن ، والمراد أهل القرى ، و { بظلم } يتوجه فيه معنيان ، أحدهما أن الله عز وجل لم يكن ليهلك المدن دون نذارة{[5100]} ، فيكون ظلماً لهم إذا لم ينذرهم ، والله ليس بظلام للعبيد ، والآخر أن الله عز وجل لم يهلك أهل القرى بظلم إذ ظلموا دون أن ينذرهم{[5101]} ، وهذا هو البين القويّ ، وذكر الطبري رحمه الله التأويلين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.