قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } ، فإن قيل : أين جواب قوله : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ؟ قيل : جوابه قوله : { أولئك لهم جنات عدن تجري } ، وأما قوله : { إنا لا نضيع } فكلام معترض . وقيل : فيه إضمار ، معناه : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنا لا نضيع أجرهم بل نجازيهم .
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء ، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به ، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة ، فلهم { جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدن : الإقامة .
{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } أي : من تحت غرفهم ومنازلهم ، قال [ لهم ]{[18163]} فرعون : { وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } [ الزخرف : 51 ] .
{ يُحَلَّوْنَ } أي : من الحلية { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } وقال في المكان الآخر : { وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] وفصله هاهنا فقال : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } فالسندس : لباس{[18164]} رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها ، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق .
وقوله : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ } الاتكاء قيل : الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس . وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث [ في ]{[18165]} الصحيح : " أما أنا فلا آكل متكئًا " {[18166]} فيه القولان .
والأرائك : جمع أريكة ، وهي السرير تحت الحَجَلة ، والحجلة كما يعرفه{[18167]} الناس في زماننا هذا بالباشخاناه ، والله أعلم .
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَرُ ، عن قتادة : { عَلَى الأرَائِكِ } قال : هي الحجال . قال معمر : وقال غيره : السّرُر في الحجال{[18168]}
وقوله : { نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } [ أي : نعمت الجنة ثوابًا على أعمالهم { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } أي : حسنت منزلا ومقيلا ومقامًا ، كما قال في النار : { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [ الكهف : 29 ]{[18169]} ، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66 ] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال : { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 76 ، 75 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا الله ورسوله ، وعملوا بطاعة الله ، وانتهوا إلى أمره ونهيه ، إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملاً ، فأطاع الله ، واتبع أمره ونهيه ، بل نجازيه بطاعته وعمله الحسن جنات عدن تجري من تحتها الأنهار .
فإن قال قائل : وأين خَبَر «إنّ » الأولى ؟ قيل : جائز أن يكون خبرها قوله : إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ مَنْ أحْسَنَ عَمَلاً فيكون معنى الكلام : إنا لا نضيع أجر من عمل صالحا ، فترك الكلام الأوّل ، واعتمد على الثاني بنية التكرير ، كما قيل : يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ بمعنى : عن قتال فيه على التكرير ، وكما قال الشاعر :
إنّ الخَلِيفَةَ إنّ اللّهَ سَرْبَلَهُ *** سِرْبالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الخَواتِيمُ
ويروى : تُرْخَى وجائز أن يكون : إنّ الّذِينَ آمَنُوا جزاءً ، فيكون معنى الكلام : إن من عمل صالحا فإنا لا نضيع أجره ، فتضمر الفاء في قوله «إنّا » وجائز أن يكون خبرها : أولئك لهم جنات عدن ، فيكون معنى الكلام : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم جنات عدن .
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } خبر إن الأولى وهي الثانية بما في حيزها ، والراجع محذوف تقديره من أحسن عملا منهم أو مستغنى عنه بعموم من أحسن عملا كما هو مستغنى عنه في قولك : نعم الرجل زيد ، أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملا لا يحسن إطلاقه على الحقيقة إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
قوله عز وجل : { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } اعتراض مؤكد للمعنى ، مذكر بأفضال الله ، منبه على حسن جزائه بين قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وقوله { أولئك } ، فقوله تعالى : { أولئك لهم جنات عدن } ابتداء وخبر جملة ، هي خبر { إن } الأولى ، ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر : [ البسيط ]
إن الخليفة إن الله ألبسه . . . سربال ملك به ترجى الخواتيم{[7805]}
قال الزجاج : ويجوز أن يكون خبر { إن } في قوله { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } لأن المحسنين هم المؤمنون فكأن المعنى : لا يضيع أجرهم .
قال القاضي أبو محمد : ومذهب سيبويه أن الخبر في قوله { لا نضيع } على حذف العائد تقديره ، { من أحسن عملاً } منهم .
جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً مراعى فيه حال السامعين من المؤمنين ، فإنهم حين يسمعون ما أعد للمشركين تتشوف نفوسهم إلى معرفة ما أعد للذين آمنوا ونبذوا الشرك فأعلِموا أن عملهم مرعي عند ربهم . وجريا على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب .
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد ( إن ) لتحقيق مضمونها . وإعادةُ حرف ( إن ) في الجملة المخبر بها عن المبتدأ الواقع في الجملة الأولى لمزيد العناية والتحقيق كقوله تعالى في سورة الحج ( 17 ) { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } وقوله تعالى : { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } [ الجمعة : 8 ] ومثله قول جرير :
إن الخليفة إن الله سَرْبله *** سِربال مُلك به تُزجَى الخواتيمُ
وموقع ( إن ) الثانية في هذه الآية أبلغ منه في بيت جرير لأن الجملة التي وقعت فيها في هذه الآية لها استقلال بمضمونها من حيث هي مفيدة حكماً يعم ما وقعت خبراً عنه وغيره من كل من يماثل الخبر عنهم في عملهم ، فذلك العموم في ذاته حكم جدير بالتأكيد لتحقيق حصوله لأربابه بخلاف بيت جرير .
وأما آية سورة الحج فقد اقتضى طولُ الفصل حرف التأكيد حرصاً على إفادة التأكيد .
والإضاعة : جعل الشيء ضائعاً . وحقيقة الضيعة : تلف الشيء من مظنة وجوده . وتطلق مجازاً على انعدام الانتفاع بشيء موجود فكأنه قد ضاع وتلف ، قال تعالى : { أني لا أضيع عَمَل عامل منكم } في سورة آل عمران ( 195 ) ، وقال : { وما كان الله ليُضِيع إيمانكم } في البقرة ( 143 ) . ويطلق على منع التمكين من شيء والانتفاع به تشبيهاً للممنوع بالضائع في اليأس من التمكن منه كما في هذه الآية ، أي أنا لا نَحْرم من أحسن عملاً أجرَ عمله . ومنه قوله تعالى : { إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين } [ التوبة : 120 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر مصير المؤمنين، فقال سبحانه: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}، يقول: لا نضيع أجر من أحسن العمل، ولكنا نجزيه بإحسانه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بطاعة الله، وانتهوا إلى أمره ونهيه، إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملاً، فأطاع الله، واتبع أمره ونهيه، بل نجازيه بطاعته وعمله الحسن جنات عدن تجري من تحتها الأنهار...
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما لمن آمن؟ فقال تعالى: {إن الذين ءامنوا} ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر، عطف عليه ما يحقق ذلك فقال تعالى: {وعملوا الصالحات} ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى: {إنا لا نضيع} أي بوجه من الوجوه لما يقتضيه عظمتنا {أجر من أحسن عملاً} مشيراً بإظهار ضميرهم إلى أنهم استحقوا بذلك الوصف بالإحسان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً مراعى فيه حال السامعين من المؤمنين، فإنهم حين يسمعون ما أعد للمشركين تتشوف نفوسهم إلى معرفة ما أعد للذين آمنوا ونبذوا الشرك فأعلِموا أن عملهم مرعي عند ربهم. وجريا على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب. وافتتاح الجملة بحرف التوكيد (إن) لتحقيق مضمونها. وإعادةُ حرف (إن) في الجملة المخبر بها عن المبتدأ الواقع في الجملة الأولى لمزيد العناية والتحقيق... والإضاعة: جعل الشيء ضائعاً. وحقيقة الضيعة: تلف الشيء من مظنة وجوده. وتطلق مجازاً على انعدام الانتفاع بشيء موجود فكأنه قد ضاع وتلف، قال تعالى: {أني لا أضيع عَمَل عامل منكم} في سورة آل عمران (195)، وقال: {وما كان الله ليُضِيع إيمانكم} في البقرة (143). ويطلق على منع التمكين من شيء والانتفاع به تشبيهاً للممنوع بالضائع في اليأس من التمكن منه كما في هذه الآية، أي أنا لا نَحْرم من أحسن عملاً أجرَ عمله. ومنه قوله تعالى: {إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
جعل الله تعالى سبب ما يستقبلهم من النعيم أمريْن: الأمر الأول: إيمان صادق وإخلاص يعمر القلوب فإنه لا ثواب من غير قلب منيب. الأمر الثاني: عمل صالح نافع بأداء ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه في استقامة قلب، وكمال قصد واتجاه إلى النفع. ويلاحظ هنا أنه أظهر في موضع الإضمار فلم يقل إنا لا نضيع أجرهم، بذكر الضمير الذي يربط بين المبتدأ والخبر، بل أظهر بالموصول، فقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}، لبيان أن استحقاقه الأجر بسبب إحسان العمل وإتقانه، وقد أكد الجزاء وأنه لا يضيع عملا، ولا يظلم الناس أشياءهم في قوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} أكّد الكلام ب (إن) وبإضافة الجزاء إليه جل جلاله. هنا ذكر الجزاء مبهما، أو ذكره سلبيا، بأنه سبحانه وتعالى لا يَحْرِمُهم من حقوقهم، ولا يضيع عليهم أجورهم...
وليكن في الاعتبار أن المتكلم رب حكيم، ما من حرف من كلامه إلا وله مغزى، ووراءه حكمة، ذلك أنه تعالى لما تكلم عن الإيمان جعله اختياراً خاضعاً لمشيئة العبد، لكنه تعالى رجح أن يكون الإيمان أولاً وأن يسبق الكفر. أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما، فقد بدأ بحكم الكفر من باب أن "درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة"...
وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه عطف على الإيمان العمل الصالح؛ لأن الإيمان هو العقيدة التي ينبع عن أصلها السلوك، فلا جدوى من الإيمان بلا عمل بمقتضى هذا الإيمان، وفائدة الإيمان أن توثق الأمر أو النهي إلى الله الذي آمنت به؛ لذلك جاء الجمع بين الإيمان والعمل الصالح في مواضع عدة من كتاب الله... ثم يقول تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}: نلاحظ أن (من) هنا عامة للمؤمن والكافر؛ لذلك لم يقل سبحانه: إنا لا نضيع أجر من أحسن الإيمان؛ لأن العامل الذي يحسن العمل قد يكون كافراً، ومع ذلك لا يبخسه الله تعالى حقه، بل يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا. فالكافر إن اجتهد وأحسن في علم أو زراعة أو تجارة لا يحرم ثمرة عمله واجتهاده، لكنها تعجل له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث لا حظ له في الآخرة...
والإنسان إنما يطلب أجره ممن عمل من أجله، وهؤلاء ما عملوا لله بل للإنسانية وللمجتمع وللشهرة وقد نالوا هذا كله في الدنيا، ولم يبق لهم شيء في الآخرة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} واختاروا الإيمان من موقع فكرهم، وحوّلوه إلى موقف وممارسة من خلال جدّيتهم في حركة المسؤولية، {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} اتخذ لنفسه الموقف الصحيح المتوازن في العمل الأحسن المرتكز على الفكر الأفضل. وبذلك كان يمثل العامل الكادح في الحياة المسؤولة، الذي كان كدحه لربّه في المستوى الذي يستحق عليه الأجر العظيم منه، وهو ما يحفظه الله له في حساب الثواب والرضوان في يوم القيامة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبما أنَّ أُسلوب القرآن أُسلوب تربوي وتطبيقي، فإنَّهُ بعدما بيّن أوصاف وجزاء عبيد الدنيا، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا. لقد أجملت الآية كل ذلك بشكل مُختصر، ثمّ بشكل تفصيلي نوعاً ما. ففي البدء قال تعالى: (إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر مَن أحسن عملا) أي إِنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة، كُلية أو جزئية، ومَن أي شخص وفي أي عُمر كان...