يقول تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ } أي : بالقرآن الذي جئتهم به ، والهدى والبيان . { قَوْمُكَ } يعني : قريشا { وَهُوَ الْحَقُّ } أي : الذي ليس وراءه حق { قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : لست عليكم بحفيظ ، ولست بموكل بكم ، كقوله { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] أي : إنما علي البلاغ ، وعليكم السمع والطاعة ، فمن اتبعني ، سعد في الدنيا والآخرة ، ومن خالفني ، فقد شقي في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا قال : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقّ قُل لّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لّكُلّ نَبَإٍ مّسْتَقَرّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وَكَذّبَ يا محمد قَوْمُكَ بما تقول وتخبر وتوعد من الوعيد . وَهُوَ الحَقّ يقول : والوعيد الذي أوعَدْناهم على مُقامهم على شركهم من بعث العذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو لَبْسهم شيعا ، وإذاقة بعضهم بأس بعض ، الحقّ الذي لا شكّ فيه أنه واقع ، إن هم لم يتوبوا وينيبوا مما هم عليه مقيمون من معصية الله والشرك به إلى طاعة الله والإيمان به . قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكيلٍ يقول : قل لهم يا محمد : لست عليكم بحفيظ ولا رقيب ، وإنما رسول أبلغكم مما أرسلت به إليكم . لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌ يقول : لكل خبر مُسْتقَرّ ، يعني قَرار يستقرّ عنده ونهاية ينتهي إليها ، فيتبين حقه وصدقه من كذبه وباطله . وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يقول : وسوف تعلمون أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به من وعيد الله إياكم أيها المشركون وحقيته عند حلول عذابه بكم . فرأوا ذلك وعاينوه فقتلهم يومئذ بأوليائه من المؤمنين .
وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السّديّ : وَكَذّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقّ يقول : كذبت قريش بالقرآن ، وهو الحقّ . وأما الوكيل : فالحفيظ : وأما لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌ : فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب .
حدثني المثني قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لكل نبأ مستقر بكل نبأ حقيقة أما في الدنيا وأما في الاَخرة وسوف تعلمون ما كان في الدنيا فسوف ترونه ، وما كان في الاَخرة فسوف يبدو لكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌ يقول : حقيقة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يقول : فعل وحقيقة ، ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الاَخرة .
وكان الحسن يتأوّل في ذلك أن الفتنة التي كانت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جعفر بن حيان ، عن الحسن أنه قرأ : لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌ قال : حُبِسَت عقوبها حتى إذا عمل ذنبها أرسلت عقوبتها .
والضمير في { به } عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات ، قاله السدي وهذا هو الظاهر ، وقيل يعود على النبي عليه السلام وهذا بعيد لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف في قوله : { قومك } ويحتمل أن يعود الضمير على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري ، وقرأ ابن أبي عبلة «وكذبك قومك » بزيادة تاء ، و { بوكيل } معناه بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى ، والوكيل بمعنى الحفيظ ، وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ ، وقيل لا نسخ في هذا إذ هو خبر . قال القاضي أبو محمد : والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لس الآن ، وليس فيه أنه لا يكون في المستأنف .
عطف على { انظر كيف نُصَرّفُ الآيات } [ الأنعام : 65 ] ، أي لعلَّهم يفقهون فلم يفقهوا وكذّبوا . وضمير { به } عائد إلى العذاب في قوله { على أن يبعث عليكم عَذَاباً } [ الأنعام : 65 ] ، وتكذيبهم به معناه تكذيبهم بأنّ الله يعذّبهم لأجل إعراضهم .
والتعبير عنهم ب { قومك } تسجيل عليهم بسوء معاملتهم لمن هو من أنفسهم ، كقوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القُرْبى } [ الشورى : 23 ] ، وقال طرفة :
وظُلْمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً *** على المرْء من وقْع الحُسام المهنّدِ
وتقدّم وجه تعدية فعل ( كذّب ) بالباء عند قوله تعالى : { وكذّبتم به } في هذه السورة [ 57 ] .
وجملة { وهو الحقّ } معترضة لقصد تحقيق القدرة على أن يبعث عليهم عذاباً الخ .
وقد تحقّق بعض ذلك بعذاببٍ من فوقهم وهو عذاب القحط ، وبإذاقتهم بأس المسلمين يوم بدر .
ويجوز أن يكون ضمير به عائداً إلى القرآن ، فيكون قوله : { وكذّب به } رجوعاً بالكلام إلى قوله { قل إنِّي على بيِّنة من ربِّي وكذّبتم به } [ الأنعام : 57 ] ، أي كذّبتم بالقرآن ، على وجه جعل ( مِنْ ) في قوله : { من ربِّي } [ الأنعام : 57 ] ابتدائية كما تقدّم ، أي كذّبتم بآية القرآن وسألتم نزولَ العذاب تصديقاً لرسالتي وذلك ليس بيدي . ثم اعتُرض بجمل كثيرة . أولاها : { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] ، ثم ما بعده من التعريض بالوعيد ، ثم بنى عليه قوله : { وكذّب به قومك وهو الحقّ } فكأنّه قيل : قل إنّي على بيّنة من ربّي وكذّبتم به وهو الحقّ قُل لست عليكم بوكيل .
وقوله : { قل لست عليكم بوكيل } إرغام لهم لأنَّهم يُرُونَه أنَّهم لمَّا كذّبوه وأعرضوا عن دعوته قد أغاظوه ، فأعلمهم الله أنَّه لا يغيظه ذلك وأنّ عليه الدعوة فإذا كانوا يُغيظون فلا يغيظون إلاّ أنفسهم .
والوكيل هنا بمعنى المدافع الناصر ، وهو الحفيظ . وتقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا حسبُنا الله ونعم الوكيل } في سورة [ آل عمران : 173 ] .
وتعديته ب ( على ) لتضمنّه معنى الغلبة والسلطة ، أي لست بقيِّم عليكم يمنعكم من التكذيب ، كقوله تعالى : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] .