{ أَلآ إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِن لاّ يَشْعُرُونَ }
وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ، ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه . قالوا : إنما نحن مصلحون لا مفسدون ، ونحن على رشد وهدى فيما أنكرتموه علينا دونكم لا ضالون . فكذبهم الله عزّ وجلّ في ذلك من قيلهم ، فقال : ألا إنّهُمُ هُمُ المُفْسِدُونَ المخالفون أمر الله عزّ وجل ، المتعدّون حدوده الراكبون معصيته ، التاركون فروضه وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك ، لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين .
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُون ( 12 )
و { ألا } استفتاح كلام ، و «إن » بكسر الألف استئناف ، و { هم } الثاني رفع بالابتداء ، و { المفسدون } خبره والجملة خبر «إن » ، ويحتمل أن يكون فصلاً ويسميه الكوفيون : «العماد » ويكون { المفسدون } خبر «إن » فعلى هذا لا موضع ل { هم } من الإعراب ، ويحتمل أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم فموضعه نصب ، ودخلت الألف واللام في قوله : { المفسدون } لما تقدم ذكر اللفظة في قوله : { لا تفسدوا } فكأنه ضرب من العهد ، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ألا إنهم مفسدون ، قاله الجرجاني .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة( {[236]} ) كما تقول زيد هو الرجل أي حق الرجل ، فقد تستغني عن مقدمة تقتضي عهداً ، و { لكن } بجملته حرف استدراك ، ويحتمل أن يراد هنا لا يشعرون أنهم مفسدون ، ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله يفضحهم ، وهذا مع أن يكون قولهم { إنما نحن مصلحون } جحداً محضاً للإفساد . والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم : { إنما نحن مصلحون } اعتقاداً منهم أنه صلاح في صلة القرابة ، أو إصلاح بين المؤمنين والكافرين .
رد عليهم في غرورهم وحصرهم أنفسهم في الصلاح فرد عليهم بطريق من طرق القصر هو أبلغ فيه من الطريق الذي قالوه لأن تعريف المسند يفيد قصر المسند على المسند إليه فيفيدُ قوله : { ألا إنهم هم المفسدون } قصر الإفساد عليهم بحيث لا يوجد في غيرهم وذلك ينفي حصرهم أنفسهم في الإصلاح وينقضه وهو جار على قانون النقض وعلى أسلوب القصر الحاصل بتعريف الجنس وإن كان الرد قد يكفي فيه أن يقال إنهم مفسدون بدون صيغة قصر ، إلا أنه قُصِر ليفيد ادعاءَ نفي الإفساد عن غيرهم . وقد يفيد ذلك أن المنافقين ليسوا ممن ينتظم في عداد المصلحين لأن شأن المفسد عرفاً أن لا يكون مصلحاً إذ الإفساد هين الحصول وإنما يصد عنه الوازع فإذا خلع المرءُ عنه الوازعَ وأخذ في الإفساد هان عليه الإفساد ثم تكرر حتى يصبح سجية ودأباً لا يكاد يفارق موصوفه .
وحرف { ألا } للتنبيه إعلاناً لوصفهم بالإفساد .
وقد أكد قصر الفساد عليهم بضمير الفصل أيضاً كما أكد به القصر في قوله : { وأولئك هم المفلحون } [ البقرة : 5 ] كما تقدم قريباً . ودخولِ { إِنَّ } على الجملة وقرنِها بأَلاَ المفيدة للتنبيه وذلك من الاهتمام بالخبر وتقويته دلالةً على سخط الله تعالى عليهم فإن أدوات الاستفتاح مثل ألا وأمَا لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه ، فلا جرم أن تدل على أبلغية ما تضمنه الخبر من مدح أو ذم أو غيرهما ، ويدل ذلك أيضاً على كمال ظهور مضمون الجملة للعيان لأن أدوات التنبيه شاركت أسماء الإشارة في تنبيه المخاطب .
وقوله : { ولكن لا يشعرون } مَحمَلُه مَحْمَلُ قوله تعالى قبله : { وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون } [ البقرة : 8 ] فإن أفعالهم التي يبتهجون بها ويزعمونها منتهى الحذق والفطنة وخدمةِ المصلحة الخالصة آيلة إلى فساد عام لا محالة إلاَّ أنهم لم يهتدوا إلى ذلك لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء أهله ، فإن حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة وتَخِفُّ بالأحلام الراجحة حتى تَرى حسناً ما ليس بالحَسَن . وموقع حرف الاستدراك هنا لأن الكلام دَفْع لما أثبتوه لأنفسهم من الخلوص للإصلاح ، فرفع ذلك التوهم بحرف الاستدراك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.