الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ} (12)

قوله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } : الآية . " ألا " حرف تنبيه واستفتاح ، وليست مركبةً مِنْ همزةِ الاستفهام ولا النافيةِ ، بل هي بسيطةٌ ، ولكنها لفظٌ مشتركٌ بين التنبيه والاستفتاح ، فتدخلُ على الجملة اسميةً كانت أو فعلية ، وبين العَرْض والتخصيص ، فتختصُّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً ، وتكون النافيةَ للجنس دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام ، ولها أحكامٌ تقدَّم بعضها عند قوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] ، وتكونُ للتمني فتجري مَجْرى " ليت " في بعض أحكامِها . وأجاز بعضُهم أن تكون جواباً بمعنى بلى ، يقول القائل : لم يقم زيد ، فتقول : ألا ، بمعنى بلى قد قام ، وهو غريب .

و " إنهم " " إنَّ " واسمُها ، و " هم " تَحْتمل ثلاثةَ أوجه ، أحدها : أن تكون تأكيداً لاسم " إنَّ " لأنَّ الضميرَ المنفصلَ المرفوعَ يجوز أن يؤكَّد به جميعُ ضروبِ الضميرِ المتصلِ ، وأن تكون فصلاً ، وأن تكونَ مبتدأ و " المفسدون " خبره ، وهما خيرٌ ل " إنَّ " ، وعلى القَولَيْن الأَوَّلَيْن يكونُ " المفسدون " وحده خبراً لإِنَّ . وجيء في هذه الجملة بضروبٍ من التأكيد ، منها : الاستفتاحُ والتنبيه والتأكيدُ بإنَّ وبالإِتيانِ وبالتأكيدِ أو الفصلِ بالضميرِ وبالتعريفِ في الخبر مبالغةً في الردِّ عليهم فيما ادَّعَوه من قولهم : إنما نحن مصلحون ، لأنهم أَخْرجوا الجوابَ جملةً اسمية مؤكَّدة بإنما ، لِيَدُلُّوا بذلك على ثبوتِ الوصفِ لهم فردَّ الله عليهم بأبلَغَ وآكدَ مِمَّا ادَّعَوه .

قوله تعالى : { وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } الواوُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلها و " لكن " معناها الاستدراكُ ، وهو معنىً لا يفارقها ، وتكون/ عاطفةً في المفردات ، ولا تكون إلا بين ضِدَّيْن أو نقيضَيْن ، وفي الخلافين خلافٌ ، نحو : " ما قام زيدٌ لكن خرج بكر " ، واستدلَّ بعضُهم على ذلك بقولِ طرفة :

ولستُ بحَلاَّلِ التِّلاعِ لِبَيْتِهِ *** ولكن متى يَسْترفدِ القومُ أَرْفِدِ

فقوله : متى يسترفدِ القوم أرفدِ " ليس ضداً ولا نقيضاً لما قبله ، ولكنه خلافُه . قال بعضهم : وهذا لا دليلَ فيه على المُدَّعَى ، لأنَّ قولَه : " لستُ بحلاَّل التِّلاعِ لبيته " كنايةٌ عن نفي البخلِ أي : لا أَحُلُّ التلاعَ لأجلِ البخلِ ، وقوله : " متى يسترفد القوم أرفد " كنايةٌ عن الكرم ، فكأنه قال : لست بخيلاً ولكن كريماً ، فهي هنا واقعةٌ بين ضِدَّيْنِ . ولا تعملُ مخفَّفةً خلافاً ليونس ، ولها أحكامٌ كثيرة .

ومعنى الاستدراكِ في هذه الآيةِ يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّلٍ ونَظَر ، وذلك أنهم لَمَّا نُهُوا عن اتخاذِ مثلِ ما كانوا يتعاطَوْنه من الإِفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك ، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون ، كانوا حقيقين بأن يَعْلَموا أن ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يَدَّعُون أنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتَهم من عدمِ الشعورِ بذلك ، ومثلُه قولك : " زيدٌ جاهلٌ ولكن لا يعلم " ، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل ، وصار الجهلُ وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يَعْلَمَ بهذا الوصفِ من نفسه ، لأن الإِنسانَ ينبغي له أن يعلم ما اشتملَتْ عليه نفسُه من الصفات فاستدركْتَ عليه أن هذا الوصفَ القائمَ به لا يعلمه مبالغةً في جَهْله .

ومفعول " يَشْعرون " محذوف : إمَّا حذفَ اختصار ، أي : لا يشعرون بأنهم مفسدون ، وإمَّا حذفَ اقتصار ، وهو الأحسنُ ، أي ليس لهم شعورٌ البتة .