ثم يكشف للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء . ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضا . وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها ، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين :
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم . وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون . يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ؟ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم - قل : إن الهدى هدى الله - أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم - قل : إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ) .
إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة . إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي . يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين . ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج ، والإلواء بها عن هذا الطريق :
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ) . .
فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد ، وكل دس ، وكل مراء ، وكل جدال ، وكل تلبيس .
وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر ، ضلال لا شك فيه . فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى . فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين . فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم :
( وما يضلون إلا أنفسهم . وما يشعرون ) . .
والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل . والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين ، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين .
{ وَدّت طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلّونَكُمْ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَدّتْ } : تمنت { طائِفَةٌ } يعني جماعة { مِنْ أهْلِ الكِتابِ } وهم أهل التوراة من اليهود ، وأهل الإنجيل من النصارى { لَوْ يُضِلّونَكُمْ } يقول : لو يصدّونكم أيها المؤمنون عن الإسلام ، ويردّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر ، فيهلكونكم بذلك . والإضلال في هذا الموضع : الإهلاك من قول الله عزّ وجلّ : { وَقَالُوا أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يعني : إذا هلكنا . ومنه قول الأخطل في هجاء جرير :
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجٍ أكْدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الأتِيّ بِهِ فَضَلّ ضَلالا
يعني : هلك هلاكا ، وقول نابغة بني ذبيان :
فآبَ مُضِلّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيّةٍ *** وغُودِرَ بالجَوْلانِ حَزْمٌ وَنائِلُ
{ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ } : وما يهلكون بما يفعلونه من محاولتهم صدّكم عن دينكم أحدا غير أنفسهم ، يعني بأنفسهم : أتباعهم وأشياعهم على ملتهم وأديانهم ، وإنما أهلكوا أنفسهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخطه ، واستحقاقهم به غضبه ولعنته ، لكفرهم بالله ، ونقضهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم في كتابهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، والإقرار بنبوّته . ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون ، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة ، والردى على جهل منهم ، بما الله بهم محلّ من عقوبته ، ومدّخر لهم من أليم عذابه ، فقال تعالى ذكره : { وَما يَشْعُرُونَ } أنهم لا يضلون إلا أنفسهم بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون¹ ومعنى قوله : { وَما يَشْعُرُونَ } : وما يدرون ولا يعلمون ، وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغنى ذلك عن إعادته .
أخبر الله تعالى عن طائفة أنها تود وتشتهي أن تضل المسلمين ، أي تتلفهم عن دينهم وتجعلهم في ضلال ثم فسر الطائفة بقوله : { من أهل الكتاب } فتحتمل { من } أن تكون للتبعيض ، وتكون الطائفة الرؤساء والأحبار الذين يسكن الناس إلى قولهم ، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وقال الطبري : { يضلونكم } معناه يهلكونكم ، واستشهد ببيت جرير{[3236]} .
كنْتَ القَذَى في موج أَخْضَرَ مُزْبدٍ . . . قذف الأتيُّ بِهِ فَضَلَّ ضلالا
وقول النابغة{[3237]} : [ الطويل ]
فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ . . . وهذا تفسير غير خاص باللفظة وإنما اطرد له هذا الضلال في الآية وفي البيتين اقترن به هلاك ، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم{[3238]} ، قوله تعالى : { وما يضلون إلا أنفسهم } إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون ، ثم أعلم أنهم لا يشعرون لذلك ، أي لا يتفطنون ، مأخوذ من الشعار المأخوذ من الشعر ، وقيل المعنى لا يشعرون أنهم لا يصلون إلى إضلالكم .
استئناف مناسبتُه قوله : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } إلى قوله { إن أولى الناس بإبراهيم } [ آل عمران : 64 68 ] إلخ . والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، ولذلك عُبّر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلاّ يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت المحاجة مَعهم في الآيات السابقة .
والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريظة ، والنضير ، وقَينُقاع ، دَعَوا عمَّار بن ياسر ، ومعاذَ بن جبل ، وحذيفةَ بن اليمان ، إلى الرجوع إلى الشرك .
وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودّت ، على طريقة الإجمال والتفصيل . فلو شرطية مستعملة في التمنّي مجازاً لأنّ التمنّي من لوازم الشرط الامتناعي . وجواب الشرط محذوف يدل عليه فعل وَدّت تقديره : لو يضلونكم لحصل مودودهم ، والتحقيق أنّ التمنّي عارض من عوارض لَوْ الامتناعية في بعض المقامات . وليس هو معنى أصلياً من معاني لو . وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى : { يَودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة } في سورة [ البقرة : 96 ] .
وقوله : { لو يضلونكم } أي ودّوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودّوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب : أي يذبذبوهم ، ويحتمل أنّ المراد الإضلال في نفس الأمر ، وإن كان وُدُّ أهل الكتاب أن يهوّدوهم . وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى : { وما يضلون إلا أنفسهم } أن يكون معناه : إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضاً ضالين ؛ لأنّ الإضلال ضلال ، وأن يكون معناه : إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله : { وما يشعرون } يناسب الاحتمالين لأنّ العلم بالحالتين دقيق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم}: يستنزلونكم عن دينكم الإسلام. {وما يضلون}: وما يستنزلون {إلا أنفسهم وما يشعرون}: إنما يضلون أنفسهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَدّتْ}: تمنت. {طائِفَةٌ}: جماعة، {مِنْ أهْلِ الكِتابِ}: وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى. {لَوْ يُضِلّونَكُمْ}: لو يصدّونكم أيها المؤمنون عن الإسلام، ويردّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك. والإضلال في هذا الموضع: الإهلاك من قول الله عزّ وجلّ: {وَقَالُوا أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} يعني: إذا هلكنا. {وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ}: وما يهلكون بما يفعلونه من محاولتهم صدّكم عن دينكم أحدا غير أنفسهم، يعني بأنفسهم: أتباعهم وأشياعهم على ملتهم وأديانهم، وإنما أهلكوا أنفسهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخطه، واستحقاقهم به غضبه ولعنته، لكفرهم بالله، ونقضهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم في كتابهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، والإقرار بنبوّته. ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة، والردى على جهل منهم، بما الله بهم محلّ من عقوبته، ومدّخر لهم من أليم عذابه، فقال تعالى ذكره: {وَما يَشْعُرُونَ}: أنهم لا يضلون إلا أنفسهم بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون¹. {وَما يَشْعُرُونَ}: وما يدرون ولا يعلمون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى ودت: تمنت... التمني، فهو تقدير شيء في النفس يستمتع بتقريره. والفرق بين ود لو يضله، وبين ود أن يضله: أن (أن) للاستقبال وليس كذلك (لو)...
أحدهما -أن المؤمنين لا يقبلون ما يدعونهم إليه من ترك الإسلام إلى غيره من الأديان فيحصل عليهم حينئذ الإثم والوبال، والاستدعاء إلى الضلال. الثاني- "وما يضلون إلا أنفسهم "بفعل الضلال، كما يقال ما أهلك إلا نفسه أي لا يعتد بهلاك غيره في عظم هلاكه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من حلَّت به فتنة، وأصابته محنة، واستهوته غواية -رَضِي لجميع الناس ما حلّ به، فأهل الكتاب يريدون بالمؤمنين أن يزيغوا عن الحق، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، وأن يعودَ إليهم وبالُ فعلهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر الله تعالى عن طائفة أنها تود وتشتهي أن تضل المسلمين، أي تتلفهم عن دينهم وتجعلهم في ضلال ثم فسر الطائفة بقوله: {من أهل الكتاب} فتحتمل {من} أن تكون للتبعيض، وتكون الطائفة الرؤساء والأحبار الذين يسكن الناس إلى قولهم، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب، وقال الطبري: {يضلونكم} معناه يهلكونكم، وهذا تفسير غير خاص باللفظة وإنما اطرد له هذا الضلال في الآية، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم. {وما يضلون إلا أنفسهم}: إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون، ثم أعلم أنهم لا يشعرون لذلك، أي لا يتفطنون، مأخوذ من الشعار المأخوذ من الشعر، وقيل المعنى لا يشعرون أنهم لا يصلون إلى إضلالكم.
اعلم أنه تعالى لما بين أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق، والإعراض عن قبول الحجة بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم: إن محمدا عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوة، وأيضا إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول، وأيضا القول بالنسخ يفضي إلى البداء، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود، ونظير قوله تعالى في سورة البقرة: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} [البقرة: 109] وقوله {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} [النساء: 89]. واعلم أن {من} ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله {منهم أمة مقتصدة} [المائدة: 66] {ومن أهل الكتاب أمة قائمة} [آل عمران: 113]... {وما يضلون إلا أنفسهم} وهو يحتمل وجوها منها... ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين، حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" لو يضلونكم "أي يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له...
وما يشعرون" أي لا يعلمون بصحة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا؛ لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قصد بعضهم بدعواه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام على دينه إنما هو إضلال أهل الإسلام عقب ذلك بالإعراب عن مرادهم بقوله تعالى -جواباً لمن كأنه قال: فما كان مراد أهل الكتابين بدعواهم فيه مع علمهم أن ذلك مخالف لصريح العقل؟ {ودت طآئفة} أي من شأنها أن تطوف حولكم طواف التابع المحب مكراً وخداعاً {من أهل الكتاب} حسداً لكم {لو يضلونكم} بالرجوع إلى دينهم الذي يعلمون أنه قد نسخ {وما} أي والحال أنهم ما {يضلون} بذلك التمني أو الإضلال لو وقع {إلا أنفسهم} لأن كلاًّ من تمنيهم وإضلالهم ضلال لهم مع أنهم لا يقدرون أن يضلوا من هداه الله، فمن تابعهم على ضلالهم فإنما أضله الله {وما يشعرون} أي وليس يتجدد لهم في وقت من الأوقات نوع شعور، فكيدهم لا يتعداهم فقد جمعوا بين الضلال والجهل، إما حقيقة لبغضهم وإما لأنهم لما عملوا بغير ما يعلمون عد علمهم جهلاً وعدوا هم بهائم، فكانت هذه الجملة على غاية التناسب، لأن أهم شيء في حق من رمى بباطل- إنما غلبة الرامي ليتعاظم بأنه شأنه -بيان إبطاله في دعواه، ثم تبكيته المتضمن لبراءة المقذوف، ثم التصريح ببراءته، ثم بيان من هو أولى بالكون من حربه، ثم بيان المراد من تلك الدعوى الكاذبة ليحذر غائلتها السامع.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
جاءت هذه الآيات بعد دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء لبيان حالهم في ذلك.
وقد قال المفسرون إن اليهود دعوا معاذا وحذيفة وعمارا إلى دينهم.
فأنزل الله: {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم} الآية، ولا شك أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين سواء دعوا بعض الصحابة إلى دينهم أم لا. وليس الإضلال خاصا بالدعوة بل كانوا يلقون ضروبا من الشك في النفوس ليصدوها عن الإسلام. من أغربها ما في الآية الآتية (72). وكان النزاع بين الفريقين مستمرا وهو ما لا بد منه في وقت الدعوة وقد قال تعالى في بيان حال هذه الطائفة المضللة. {وما يضلون إلا أنفسهم}.
قال الأستاذ الإمام: معناه أنهم بتوجههم إلى الإضلال واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية وما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات على كونه نبيا هاديا. فهم يعبثون بعقولهم ويفسدون فطرتهم باختيارهم ولا وجه لمن قال: إن معنى إضلال أنفسهم هو كون عاقبته شرا عليهم ووبالا في الآخرة لأنهم يعذبون عليه فإن الكلام في المحاجة وبيان اعوجاج طريقة المضلين وأما العقاب في الآخرة على الإضلال فهو مبين في مواضع من الكتاب وليس هذا محله وهو لا يفيد هنا في الاحتجاج لأنه إنذار لغير مؤمن بالنذير. ولكل مقام مقال.
أقول: وقد أورد الرازي نحو ما قاله الأستاذ الإمام ووجها ثالثا هو أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم صاروا خائنين خاسرين حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الآمر بخلاف ما تصوروه. ولكن ينافي هذا قوله "وما يشعرون "وهم قد شعروا بخيبتهم في الإضلال ولكنهم لانهماكهم فيه لم يشعروا بأنه كان صارفا لهم عن معرفة الحق والهدى لأن المنهمك في الشيء لا يكاد يفطن لعواقبه وآثاره.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه، ولكن من لطف الله أنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فلهذا قال تعالى {وما يضلون إلا أنفسهم} فسعيهم في إضلال المؤمنين زيادة في ضلال أنفسهم وزيادة عذاب لهم، قال تعالى {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يكشف للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء. ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضا. وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين:
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم. وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون. يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون. ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم -قل: إن الهدى هدى الله- أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم -قل: إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم. يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).
إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة. إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي. يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين. ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج، والإلواء بها عن هذا الطريق:
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)..
فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد، وكل دس، وكل مراء، وكل جدال، وكل تلبيس.
وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر، ضلال لا شك فيه. فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى. فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين. فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم:
(وما يضلون إلا أنفسهم. وما يشعرون)..
والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل. والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم}: إن اليهود والنصارى كانوا يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله،كما قال تعالى: {ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا} [البقرة 109] فأولئك الكتابيون كانوا يشعرون أنهم فوق مستوى سائر العرب،فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهديه فيهم ارتفع مستوى العرب فلم يذعنوا للحق الذي كان عليهم أن يؤمنوا له،بل تمردوا عليه، ولعظم المنزلة التي يعلمونها فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يتمنون ان يضل المؤمنون،أي تمنت طائفة من أهل الكتاب ضلالكم،فلو هنا مصدرية تدل على التمني،أي ودت هذه الطائفة ضلالكم ولم يكن ذلك منهم أمنية يتمنونها فقط،بل كانوا يقرنون القول بالعمل،فكانوا يلقون بالظنون والشكوك والأوهام حول الدعوة المحمدية ليرتاب الذين آمنوا، وكان منهم منافقون ينبثون بين المسلمين باسم أنهم مسلمون،ويلقون بالريب والتشكيك في النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به كما يفعل اليوم أخلاقهم من بعدهم؛ ولقد كان منهم من يجرؤ على الدعوة إلى اليهودية،حتى إنه ليروى أن يهود المدينة دعوا حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر إلى اليهودية، ولكن ضل سعيهم،وباءوا بالخسران المبين.
وإن الذي يعلم الحق،ويحاول أن يضلل غيره يزداد ضلالا ويعمى عن طريق الهداية،حتى ينتهي الأمر به إلى أن يجهل الذي كان يعلمه، وكذبك كان هؤلاء؛ ولذا قال سبحانه:
{وما يضلون إلا انفسهم وما يشعرون}: أي انهم بسبب غوايتهم وعمايتهم واستيلاء الهوى على قلوبهم أخذوا يثيرون الشك على أهل اليقين، فما أثر الشك في أهل الحق،ولكن تأثرت نفوسهم هم بهذا الشك الذي أثاروه ليضلوا غيرهم،فضلوا،فهم حاولوا إضلال المؤمنين،فأكد الله سبحانه أنهم ما أضلوا إلا أنفسهم،وكان ضلالهم لنفسهم من ناحيتين:
إحداهما: ما ذكرناها من أن إيرادهم للشك في الأمر الذي كانوا يعلمون الحق فيه قد أوجد فيهم هم أنفسهم حيرة بعد أن كانوا يعلمون، ومثل هذا مثل الكذوب الذي يكذب ويكرر كذبته حتى يعتقد صدقها.
الناحية الثانية:أنهم كلما لجوا في الدعوة إلى الباطل الذي استمسكوا به بعدوا عن الإذعان للحق، فبمقدار ما كانوا يثيرون حول الحق من أكاذيب كانوا يبتعدون من الإيمان والإذعان، فيزدادوا ضلالا فوق ضلالهم؛ وتلك حال نفسية يقيمون فيها ولا يشعرون بها.
لماذا أحبوا أن يُضلوا المؤمنين؟ لأن المنحرف حين يرى المستقيم، يعرف أنه كمنحرف لم ينجح في أن يضبط حركته على مقتضى التكليف الإيماني ل "افعل "و "لا تفعل"، أما الملتزم المؤمن فقد استطاع أن يضبط نفسه، وساعة يرى غير الملتزم إنسانا آخر ملتزما، فإنه يحتقر نفسه، ويقول بينه وبين نفسه حسدا للمؤمن: لماذا وكيف استطاع هذا الملتزم أن يقدر على نفسه؟ ويحاول المنحرف أن يأخذ الملتزم إلى جانب الانحراف، وعندما لا يستطيع جذب الملتزم إلى الانحراف فهو يسخر منه، ويهزأ به، ويحاول أن يحتال عليه ليأخذه إلى جانب الانحراف...
إنهم يحبون ذلك ويتمنونه، ولكن ليس كل ما يوده الإنسان يحدث، فالتمني هو أن يطلب الإنسان أمرا مستحيلا أو عسير المنال، هم يحبون ذلك ولكن لن يصلوا إلى ما يريدون، يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يشعرون): وذلك لأنّهم بإلقاء الشبهات حول الإسلام وعلى رسول الإسلام واتّهامهما بشتّى التهم، إنّما يربّون في أنفسهم روح سوء الظن. وبعبارة أوضح: إن العيّاب الذي يتصيّد الهفوات يعمى عن رؤية نقاط القوّة، أو بسبب تعصّبه وعناده يرى النقاط المضيئة الإيجابية نقاطاً مظلمة سلبية، وكلّما ازداد إصراراً على هذا، ازداد بُعداً عن الحقّ. ولعلّ تعبير (وما يشعُرون) إشارة إلى هذه الحالة النفسية، وهي أنّ الإنسان يقع دون وعي منه تحت تأثير أقواله هو أيضاً، وفي الوقت الذي يحاول فيه بالسفسطة والكذب والافتراء أن يضلّ الآخرين، لا يكون هو نفسه بمنأى عن التأثير بأكاذيبه، فتروح هذه الاختلافات تؤثّر بالتدريج في روحه وتتمكّن فيه بعد فترة وجيزة بصورة عقيدة راسخة، فيصدّقها ويضلّ نفسه بها...