144- وإن من أسباب النفاق أن المنافقين جعلوا لأهل غير الإيمان ولاية لهم ونصرة ، فتجنبوا هذا - أيها المؤمنون - ولا تتخذوا الكافرين نصراء ذوي ولاية عليكم تخضعون لهم ، وإنكم إن فعلتم ذلك كان لله حُجة عليكم بينة ، فتدخلون مع المنافقين وتذلون ، لأنكم لا تجعلون عزتكم من الله ، ومن الحق ، ومن العمل الصالح .
وإلى هنا يكون السياق قد بلغ من إثارة الاشمئزاز والاحتقار والاستضعاف للمنافقين في نفوس المؤمنين مبلغا عظيما . . فيلتفت بالخطاب للمؤمنين محذرا إياهم أن يسلكوا طريق هؤلاء المنافقين . . وطريق المنافقين - كما سبق - هو اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين . ويحذرهم بطش الله ونقمته ، كما يصور لهم مصير المنافقين في الآخرة . وهو مصير مفزع رعيب ، مهين كذلك ذليل :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ؟ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار . ولن تجد لهم نصيرا . إلا الذين تابوا وأصلحوا ، واعتصموا بالله ، وأخلصوا دينهم لله . فأولئك مع المؤمنين . وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيمًا ) . .
إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا ، بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم . والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم . والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات .
نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين ، ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين . . وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك . حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة ؛ وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش - ولو من الناحية النفسية - ونقول " بعض المسلمين " لأن هناك البعض الآخر ؛ الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي - حتى مع الآباء والأبناء - وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم ؛ كما علمهم الله .
وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين - بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة - وتحذيره من التعرض لغضب الله وبطشه ونقمته : ( أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ؟ )
ولا يفرق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقة وارتجافة من التعرض لبطش الله ونقمته . . ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام . . ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين !
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم ، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] أي : يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه . ولهذا قال هاهنا : { أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي : حجة عليكم في عقوبته إياكم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس قوله : { سُلْطَانًا مُبِينًا } [ قال ]{[8516]} كل سلطان في القرآن حجة .
وهذا إسناد صحيح . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب القُرَظي ، والضحاك ، والسدي والنضر بن عَرَبي .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } . .
وهذا نهي من الله عباده المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه . يقول لهم جلّ ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا توالوا الكفار فتوازروهم من دون أهل ملتكم ودينكم من المؤمنين ، فتكونوا كمن أوجب له النار من المنافقين . ثم قال جلّ ثناؤه متوعدا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين إن هو لم يرتدع عن موالاته وينجر عن مخالته أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابا أليما : أتريدون أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، ممن قد آمن بي وبرسولي أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ، يقول : حجة باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، فتستوجبوا منه ما استوجبه أهل النفاق الذين وصف لكم صفتهم وأخبركم بمحلهم عنده { مُبِينا } يعني : عن صحتها وحقيتها ، يقول : لا تعرضوا لغضب الله بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أتُرِيدُونَ أنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانا مُبِينا } قال : إن لله السلطان على خلقه ، ولكنه يقول عذرا مبينا } قال : إن لله السلطان على خلقه ، ولكنه يقول عذرا مبينا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرمة ، قال : ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { سُلْطانا مُبِينا } قال : حجة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} يرغبهم، {لا تتخذوا الكافرين} من اليهود {أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا}، يعني حجة بينة يحتج بها عليكم حين توليتم اليهود ونصحتموهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا نهي من الله عباده المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه؛ يقول لهم جلّ ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا توالوا الكفار فتوازروهم من دون أهل ملتكم ودينكم من المؤمنين، فتكونوا كمن أوجب له النار من المنافقين.
ثم قال جلّ ثناؤه متوعدا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين إن هو لم يرتدع عن موالاته وينجر عن مخالته أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابا أليما: أتريدون أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ممن قد آمن بي وبرسولي أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا، يقول: حجة باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فتستوجبوا منه ما استوجبه أهل النفاق الذين وصف لكم صفتهم وأخبركم بمحلهم عنده. {مُبِينا} يعني: عن صحتها وحقيتها، يقول: لا تعرضوا لغضب الله بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به.
عن قتادة: إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول عذرا مبينا.
عن عكرمة، قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم وجه النهي في الولاية واتخاذهم أولياء يكون من وجوه: يحتمل النهي عن ولايتهم ولاية الدين: أي لا تثقوا بهم، ولا تصدقوهم، ولا تأمنوهم في الدين، فإنهم يريدون أن يصرفوكم عن دينكم كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم} (آل عمران: 149). ويحتمل النهي عن ولاية الأولياء في أمر الدنيا كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا} الآية (آل عمران: 118) نهى المؤمنين عز وجل أن يجعلوا المنافقين موضع سرهم في أمر من أمور الحرب وغيره. ويحتمل النهي في كل أمر، أي لا تصادقوهم، ولا تجالسوهم، ولا تأمنوهم...
وقوله تعالى: {أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا} هو، والله أعلم الإرادة، وهي صفة كل فاعل في الحقيقة. وحرف الاستفهام من الله إيجاب، فكأنه قال: قد جعلتم لله في تعذيبكم حجة بينة يعقلها الكل، أنى ذلك يكون، وهو اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين حجة ظاهرة في لزوم المقت؟...
اقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم، وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولداً كان أو غيره. ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء} لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء.
{سلطانا}: حجة بينة، يعني أن موالاة الكافرين بينة على النفاق. وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر؛ فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
خطابه تعالى للمؤمنين، يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان، ففي اللفظ رفق بهم، وهم المراد بقوله تعالى: {أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً} لأن التوقيف إنما هو لمن ألم بشيء من الفعل المؤدي إلى هذه الحال، والمؤمنون المخلصون ما ألموا قط بشيء من ذلك، ويقوي هذا المنزع قوله تعالى: {من دون المؤمنين} أي والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين، بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه...
إن حملنا الآية الأولى على أنه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار كان معنى الآية أتريدون أن تجعلوا لله سلطانا مبينا على كونكم منافقين، والمراد أتريدون أن تجعلوا لأهل دين الله وهم الرسول وأمته. وإن حملنا الآية الأولى على المنافقين كان المعنى: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم للمنافقين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضى ما أراد من الإنكار على من ادعى الإيمان في اتخاذ الكافرين أولياء، المستلزم للنهي عن ذلك الاتخاذ، صرح به مخاطباً للمؤمنين فقال: {يا أيها الذين ءامنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقاً أو كذباً {لا تتخذوا} أي تكلفوا أنفسكم غير ما تدعوا إليه الفطرة الأولى السليمة فتأخذوا {الكافرين} أي المجاهرين بالكفر الغريقين فيه {أولياء} أي أقرباء، تفعلون معهم من الود والنصرة ما يفعل القريب مع قريبه. ولما كان الغريق في الإيمان أعلى الناس، وكان تحت رتبته رتب متكاثرة، نبه على ذلك وعلى دناءة مقصدهم بالجار فقال: {من دون المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، وهذا إشارة إلى أنه لا يصح لمن يواليهم دعوى الإيمان، ولذلك قال منكراً: {أتريدون} أي بموالاتهم {أن تجعلوا لله} أي الذي لا تطاق سطوته لأن له الكمال كله {عليكم} أي في النسبة إلى النفاق {سلطاناً} أي دليلاً واضحاً على كفركم باتباعكم غير سبيل المؤمنين {مبيناً} واضحاً مسوِّغاً لعقابكم وخزيكم وجعلكم في زمرة المنافقين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين} فإن هذا من فعل المنافقين، يوالونهم وينصرونهم من دون المؤمنين لأنهم لا يكرهون أن يكون لهم النصر والسلطان، وأن يلحقوا بهم، ويعدوا أنفسهم منهم، ولا يكون هذا من مؤمن. حذر الله تعالى المؤمنين أن يحذو بعض ضعفائهم حذو المنافقين في ولاية الكافرين من دون المؤمنين أي من غير المؤمنين وفي خلاف مصلحتهم، يبتغون عندهم العزة، ويرجون منهم المنفعة، فإنه ربما يخطر في بال صاحب الحاجة منهم أن ذلك لا يضر كما فعل حاطب بن بلتعة إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) في شأنهم لأن له عندهم أهلا ومالا. فالأولياء جمع ولي من الولاية بكسر الواو وهي النصرة. وأما الولاية بفتح الواو فهي تولي الأمر، وقيل يطلق اللفظان على كلا المعنيين والمراد هنا النصرة بالقول أو الفعل فيما ينافي مصلحة المسلمين. ومثله قوله تعالى في سورة المائدة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة:51] وإن عم بعض المفسرين في هذه، والله تعالى يقول بعدها {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة. فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} [المائدة:52] وهؤلاء هم المنافقون، فالخوف من إصابة الدائرة، وذكر الفتح وندمهم إذا جعله الله للمؤمنين، مما يدل على أن الولاية هنا ولاية النصرة لليهود والنصارى الذين كانوا حربا للنبي (صلى الله عليه وسلم) وللمؤمنين، فهو لا يشمل من ليسوا كذلك كالذميين إذا استخدمتهم الدولة في أعمالها الحربية أو الإدارية بل لهؤلاء حكم آخر...
{أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا} أي أتريدون أن تجعلوا لله عليكم يوم القيامة حجة بينة على استحقاقكم لعذابه إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين، لأن هذا من عمل المنافقين، فالسلطان بمعنى الحجة والبرهان.
وقيل إنه بمعنى السلطة ومعناه أن يسلطهم عليكم بذنوبكم، ولكن وصف السلطان بالمبين أظهر في المعنى الأول. ويستعمل المبين بمعنى البين في نفسه ومعنى المبين لغيره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإلى هنا يكون السياق قد بلغ من إثارة الاشمئزاز والاحتقار والاستضعاف للمنافقين في نفوس المؤمنين مبلغا عظيما.. فيلتفت بالخطاب للمؤمنين محذرا إياهم أن يسلكوا طريق هؤلاء المنافقين.. وطريق المنافقين -كما سبق- هو اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين. ويحذرهم بطش الله ونقمته، كما يصور لهم مصير المنافقين في الآخرة. وهو مصير مفزع رعيب، مهين كذلك ذليل:
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا؟ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. ولن تجد لهم نصيرا. إلا الذين تابوا وأصلحوا، واعتصموا بالله، وأخلصوا دينهم لله. فأولئك مع المؤمنين. وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيمًا)..
إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا، بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم. والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم. والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات.
نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين، ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين.. وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك. حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة؛ وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش -ولو من الناحية النفسية- ونقول "بعض المسلمين "لأن هناك البعض الآخر؛ الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي -حتى مع الآباء والأبناء- وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم؛ كما علمهم الله.
وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين -بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة- وتحذيره من التعرض لغضب الله وبطشه ونقمته: (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا؟)
ولا يفرق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقة و؟؟رتجافة من التعرض لبطش الله ونقمته.. ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام.. ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أقبل على المؤمنين بالتحذير من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم واستصناعهم للمنافقين لقصد أذى المسلمين، فعَلِم السامع أنّه لولا عداوة الكافرين لهذا الدين لما كان النفاق، وما كانت تصاريف المنافقين، فقال: {يأيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين}، فهي استئناف ابتدائي، لأنّها توجيه خطاب بعد الانتهاء من الإخبار عن المنافقين بطريق الغيبة. وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة الكافرين. فالتحذير من موالاة الكافرين والمنافقين، ومن الوقوع في النفاق، لإن المنافقين تظاهروا بالإيمان ووالوا الكافرين تحذير من الاستشعار بشعار النفاق، وتحذير من موالاة المنافقين الذين هم أولياء الكافرين، وتشهير بنفاق المنافقين، وتسجيل عليهم أن لا يقولوا: كنّا نجهل أنّ الله لا يحبّ موالاة الكافرين...
وقوله: {أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً} استئناف بياني، لأنّ النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء ممّا يبعث الناس على معرفة جزاء هذا الفعل مع ما ذكرناه من قصد التشهير بالمنافقين والتسجيل عليهم، أي أنّكم إن استمررتم على موالاة الكافرين جعلتم لله عليكم سلطاناً مبيّناً، أي حجّة واضحة على فساد إيمانكم، فهذا تعريض بالمنافقين...
وهذا السلطان هو حجّة الرسول عليهم بأنّهم غير مؤمنين فتجري عليهم أحكام الكفر...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
النداء للمؤمنين بالبعيد ليكون التنبيه قويا، ونادى بالموصول للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي ألا يكون ولاء المؤمن لغير المؤمنين... وقوله تعالى: {دون المؤمنين} يشير إلى أنهم يتركون المؤمنين لينظموا إلى ولاية الكافرين، وذلك لا يسوغ من مسلم ولذلك قال تعالى: {أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا}...
الاستفهام للإنكار والتوبيخ إن وقع هذا منهم، وهو يتضمن التهديد لهم بتسليط مقت الله عليهم إن فعلوا فهو استفهام يتضمن إنكارا للوقوع، أي لا يقع منهم ولا يصح أن يقع ويتضمن التحذير والإنذار...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
كان الحديث في الآيات السابقة عن المنافقين كنموذج منحرف عن الخط الصحيح في الواقع الإسلامي. وفي هذه الآيات لفتاتٌ ودعوة إلى المؤمنين بالابتعاد عن أساليبهم وأعمالهم، وذلك بأن يشعروا بأن أولياءهم هم المؤمنون، أما الكافرون، فهم أعداء العقيدة والحياة، فلا يتخذوا منهم أولياء بعيداً عن المؤمنين، لأن ذلك هو النفاق بعينه. والالتزام بالعقيدة يفرض الالتزام بنتائجها التي تقف في مقدمتها الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله، في ما يختزنه الإنسان من مشاعر ومواقف. ويتصاعد الأسلوب القرآني في الآية، ليضع المؤمنين في أجواء التهديد بأن هذا الاتجاه في السلوك يجعل لله عليهم الحجة التي يعاقبهم على أساسها؛ وذلك بطريقة إثارة السؤال أمامهم في إيحاءٍ تهديدي: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً}؟ وكأنه يقول: وهل يستطيع الإنسان الضعيف أن يتماسك أمام هذا الموقف الصعب بين يدي الله، ليفكر المؤمنون بخطواتهم قبل أن يبدأوا طريق الانحراف...