93- ولو شاء اللَّه لجعلكم أمة واحدة في الجنس واللون والإيمان ، ليس بينها تخالف ، وذلك بخلقكم خلقا آخر . كالملائكة لا اختيار لها ، ولكن شاء اللَّه أن تختلفوا في الأجناس والألوان ، وأن يجعل لكم اختيارا ، فمن اختار شهوات الدنيا ، وآثرها على رضا اللَّه تركه وما يريد ، ومن أراد رضا اللَّه بالعمل الصالح سهّل له ما أراد . وتأكدوا بعد ذلك أنكم ستسألون جميعا يوم القيامة عما كنتم تعملون في الدنيا ، وتجازون حسب أعمالكم .
( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ) . ولو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد ، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة ، نسخا غير مكررة ولا معادة ، وجعل نواميس للهدى والضلال ، تمضي بها مشيئته في الناس . وكل مسؤول عما يعمل . فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببا في نقض العهود . فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة الله . والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات . وهذه قمة في نظافة التعامل ، والسماحة الدينية ، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في ظل هذا القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولو شاء ربكم أيها الناس للطف بكم بتوفية من عنده ، فصرتم جميعا جماعة واحدة وأهل ملة واحدة ، لا تختلفون ولا تفترقون ، ولكنه تعالى ذكره خالف بينكم فجعلكم أهل ملل شتى ، بأن وفّق هؤلاء للإِيمان به والعمل بطاعته فكانوا مؤمنين ، وخذل هؤلاء فحَرَمَهم توفيقه فكانوا كافرين ، وليسألنكم الله جميعا يوم القيامة عما كنتم تعملون في الدنيا فيما أمركم ونهاكم ، ثم ليَجازينكم جزاء المطيع منكم بطاعته والعاصي له بمعصيته .
لما أحال البيان إلى يوم القيامة زادهم إعلاماً بحكمة هذا التأخير فأعلمهم أنه قادر على أن يبيّن لهم الحقّ من هذه الدار فيجعلهم أمّة واحدة . ولكنه أضلّ من شاء ، أي خلق فيه داعية الضلال ، وهدى من شاء ، أي خلق فيه داعية الهُدى . وأحال الأمر هنا على المشيئة إجمالاً ، لتعذّر نشر مطاوي الحكمة من ذلك .
ومرجعها إلى مشيئة الله تعالى أن يخلق الناس على هذا الاختلاف الناشىء عن اختلاف أحوال التفكير ومراتب المدارك والعقول ، وذلك يتولّد من تطوّرات عظيمة تعرض للإنسان في تناسله وحضارته وغير ذلك مما أجمله قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } [ سورة الانشقاق : 25 ] . وهذه المشيئة لا يطّلع على كنهها إلا الله تعالى وتظهر آثارها في فرقة المهتدين وفرقة الضالين .
ولما كان قوله : { ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء } قد يغترّ به قصّار الأنظار فيحسبون أن الضالين والمهتدين سواء عند الله وأن الضالين معذورون في ضلالهم إذ كان من أثر مشيئة الله فعقّب ذلك بقوله : { ولتسألن عما كنتم تعملون } مؤكّداً بتأكيدين كما تقدم نظيره آنفاً ، أي عما تعملون من عللِ ضلالٍ أو عمل هدى .
والسؤال : كنية عن المحاسبة ، لأنه سؤال حكيم تترتّب عليه الإنارة وليس سؤال استطلاع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة}، يعني: على ملة الإسلام،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربكم أيها الناس للطف بكم بتوفية من عنده، فصرتم جميعا جماعة واحدة وأهل ملة واحدة، لا تختلفون ولا تفترقون، ولكنه تعالى ذكره خالف بينكم فجعلكم أهل ملل شتى، بأن وفّق هؤلاء للإِيمان به والعمل بطاعته فكانوا مؤمنين، وخذل هؤلاء فحَرَمَهم توفيقه فكانوا كافرين، وليسألنكم الله جميعا يوم القيامة عما كنتم تعملون في الدنيا فيما أمركم ونهاكم، ثم ليَجازينكم جزاء المطيع منكم بطاعته والعاصي له بمعصيته.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ولوشاء الله لجعلكم أمة واحدة"، إخبار منه تعالى عن أن العباد إذا خالفوا أمره لم يعاجزوه، ولم يغالبوه تعالى عن ذلك لأنه لو يشاء لأكرههم على أن يكونوا أمة واحدة، لكنه يشاء أن يجتمعوا على الإيمان على وجه يستحقون به الثواب. ومثله قوله: "ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض"... كذلك قال سبحانه -ههنا -، ولكن ليمتحنكم ويختبركم لتستحقوا النعيم الذي أراده لكم، فيضل قوم، ويستحقوا الإضلال عن طريق الجنة، والحكم عليهم بأنهم ضالون. ويهتدي آخرون، فيستحقوا الهدى، يعني: الحكم لهم بالهداية، وإرشادهم إلى طريق الجنة...
ثم قال: "ولتسألن "يا معشر المكلفين "عما كنتم تعملون "في الدنيا من الطاعات والمعاصي، فتجازون عليه بقدره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة}، حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، وهو قادر على ذلك. {ولكن} الحكمة اقتضت أن يضلّ {مَن يَشَآء}، وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه، {وَيَهْدِي مَن يَشَاء}، وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان. يعني: أنه بنى الأمر على الاختيار، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب، ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله: {وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، ولو كان هو المضطرّ إلى الضلال والاهتداء، لما أثبت لهم عملا يسألون عنه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولو شاء الله} الآية، أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يبتلي عباده بالأوامر والنواهي ليذهب كل أحد إلى ما يسر له، وذلك منه تعالى بحق الملك، وأنه لا يسأل عما يفعل، ولو شاء لكان الناس كلهم في طريق واحد، إما في هدى وإما في ضلالة، ولكنه تعالى شاء أن يفرق بينهم، ويخص قوماً بالسعادة وقوماً بالشقاوة، و {يضل} و {يهدي}، معناه يخلق ذلك في القلوب...
اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أمر ونهى، وخوف من العذاب في القيامة، وكان ربما ظن من لا علم له -وهم الأكثر- من كثرة التصريح بالحوالة على القيامة نقص القدرة في هذه الدار، صرح بنفي ذلك بقوله تعالى: {ولو شاء الله}، أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، أن يجعلكم أمة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه، {لجعلكم أمة واحدة}، متفقة على أمر واحد لا تؤم غيره، منفياً عنها أسباب الخلاف، {ولكن}، لم يشأ ذلك وشاء اختلافكم، فهو: {يضل من يشاء}، عدلاً منه؛ لأنه تام الملك عام الملك، ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات، {ويهدي} بفضله {من يشاء}، ولو كان على أخس الأحوال، فبذلك يكونون مختلفين في المقاصد، يؤم هذا غير ما يؤمه هذا، فيأتي الخلاف مع تأدية العقل إلى أن الاجتماع خير من الافتراق، فالاختلاف مع هذا من قدرته الباهرة.
ولما تقرر بهذا أن الكل فعله وحده فلا فعل لغيره أصلاً، كان ربما أوقع في الوهم أنه لا حرج على أحد في شيء يفعله بين أن السؤال يكون عن المباشرة ظاهراً على ما يتعارف الناس في إسناد الفعل إلى من ظهر اكتسابه له، فقال تعالى مرغباً مرهباً مؤكداً لإنكارهم البعث عما ينشأ عنه: {ولتسألن عما كنتم}، أي: كوناً أنتم مجبولون عليه، {تعملون}، وإن دق، فيجازي كلاًّ منكم على عمله، وإن كان غنياً عن السؤال، فهو بكل شيء عليم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة، نسخا غير مكررة ولا معادة، وجعل نواميس للهدى والضلال، تمضي بها مشيئته في الناس. وكل مسؤول عما يعمل. فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببا في نقض العهود. فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة الله. والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات. وهذه قمة في نظافة التعامل، والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في ظل هذا القرآن...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأحال الأمر هنا على المشيئة إجمالاً، لتعذّر نشر مطاوي الحكمة من ذلك. ومرجعها إلى مشيئة الله تعالى أن يخلق الناس على هذا الاختلاف الناشئ عن اختلاف أحوال التفكير ومراتب المدارك والعقول، وذلك يتولّد من تطوّرات عظيمة تعرض للإنسان في تناسله وحضارته وغير ذلك... وهذه المشيئة لا يطّلع على كنهها إلا الله تعالى وتظهر آثارها في فرقة المهتدين وفرقة الضالين...
ولما كان قوله: {ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء} قد يغترّ به قصّار الأنظار فيحسبون أن الضالين والمهتدين سواء عند الله وأن الضالين معذورون في ضلالهم إذ كان من أثر مشيئة الله فعقّب ذلك بقوله: {ولتسألن عما كنتم تعملون} مؤكّداً بتأكيدين كما تقدم نظيره آنفاً، أي عما تعملون من عللِ ضلالٍ أو عمل هدى. والسؤال...
ذلك لأن كل أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يفد إلى الحياة، مخلوقة بالحق خلقاً تسخيرياً، فلا يوجد جنس من الأجناس تأبى عما قصد منه، لا الجماد ولا النبات ولا الحيوان. كل هذه الأكوان تسير سيراً سليماً كما أراد الله منها، والعجيب أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد المختل في الكون، ذلك لما له من حرية الاختيار، يفعل أو لا يفعل. لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} (سورة الحج 18) هكذا تسجد كل هذه المخلوقات لله دون استثناء، إلا في الإنسان فقال تعالى: {وكثير حق عليه العذاب} (سورة الحج 18)...
فكأن الحق تبارك وتعالى خلق الإنسان وكرمه بأن جعله مختاراً في أن يطيع أو أن يعصى، فإذا ما أتى طائعاً مختاراً، وهو قادر على المعصية، فقد أثبت المحبوبية لربه سبحانه وتعالى. ولابد أن تتوافر للاختيار شروط. أولها العقل، فهو آلة الاختيار، كذلك لا يكلف المجنون، فإذا توفر العقل لابد له من النضج والبلوغ، ويتم ذلك حينما يكون الإنسان قادراً على إنجاب مثله، وأصبحت له ذاتية مولده...
وهذه سمة اكتمال الذات؛ فهو قبل هذا الاكتمال ناقص التكوين، وليس أهلاً للتكليف، فإذا كان عاقلاً ناضجاً بالبلوغ واكتمال الذات، فلابد له أن يكون مختاراً غير مكره، فإن أكره على الشيء فلن يسأل عنه، فإن اختل شرط من هذه الثلاثة فلا معنى للاختيار، وبذلك يضمن الحق تبارك وتعالى للإنسان السلامة في الاختيار...
والحق تبارك وتعالى وإن كرم الإنسان بالاختيار، فمن رحمته به أن يجعل فيه بعض الأعضاء اضطرارية مسخرة لا دخل له فيها. ولو تأملنا هذه الأعضاء لوجدناها جوهرية، وتتوقف عليها حياة الإنسان، فكان من رحمة الله بنا أن جعل هذه الأعضاء تعمل وتؤدي وظيفتها دون أن نشعر. فالقلب مثلاً يعمل بانتظام في اليقظة والمنام دون أن نشعر به، وكذلك التنفس والكلى والكبد والأمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه مسخرة، كالجماد والنبات والحيوان...
فالمعنى إذن: يحكم بضلال من يشاء، ويحكم بهدى من يشاء، وليس لأحد أن ينقل الأمر إلى عكس هذا الفهم، بدليل قوله تعالى بعدها: {ولتسألن عما كنتم تعملون}، فالعبد لا يسأل إلا عما عملت يداه، والسؤال هنا، معناه: حرية الاختيار في العمل، وكيف تسأل عن شيء لا دخل لك فيه؟ فلنفهم إذن عن الحق تبارك وتعالى مراده من الآية...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولا تعني هذه الحرية بأنّ اللّه سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم، وإِنّما بقدر ما يقدمون على السير والمجاهدة، سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه جل شأنه، حتى يصلوا لهدفهم، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه النعمة الرّبانية، فتراهم كلما طال المقام بهم ازدادوا ضلالا...
ولكنّ الهداية الإِلهية أو الإِضلال لا تسلب المسؤولية عنكم، حيث أنّ الخطوات الأُولى على عواتقكم، ولهذا يأتي النداء الرباني: (ولتسألنّ عمّا كنتم تعملون)...
وتشير هذه العبارة إلى نسبة أعمال البشر إلى أنفسهم، وتؤكّد على تحميلهم مسؤولية تلك الأعمال، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير مفهوم الهداية والإِضلال الإلهيين وأن أيّاً منهما لا يستبطن صفة الإِجبار أبداً...