قوله تعالى : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية ، قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد ، قالوا : يا محمد ، لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله ، فأنزل الله عز وجل : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } مكتوباً من عنده .
قوله تعالى : { فلمسوه بأيديهم } ، أي : عاينوه ومسوه بأيديهم ، وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة ، لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من المعاينة ، فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس .
قوله تعالى : { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } . معناه : أنه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي .
ثم يمضي السياق يصور طبيعة العناد ، التي ينبعث منها ذلك الإعراض ؛ فيرسم نموذجا عجيبا من النفوس البشرية . . ولكنه نموذج مع ذلك مكرور ، يجده الإنسان في كل عصر وفي كل بيئة وفي كل جيل . . نموذج النفس المكابرة ، التي يخرق الحق عينها ولا تراه ! والتي تنكر ما لا ينكر لأنه من الوضوح بحيث يخجل المخالف أن ينكره ! على الأقل من باب الحياء ! . . والقرآن يرسم هذا النموذج شاخصا في كلمات قلائل ، على طريقة التعبير القرآني المبدعة المعجزة في التعبير والتصوير :
( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين ) . .
إنه ليس الذي يجعلهم يعرضون عن أيات الله ، أن البرهان على صدقها ضعيف ، أو غامض ، أو تختلف فيه العقول . إنما الذي يجعلهم يقفون هذا الموقف هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق ! وهو الإصرار مبدئيا على الرفض والإنكار وعدم اعتبار البرهان أو النظر إليه أصلا ! ولو أن الله - سبحانه - نزل على رسول الله [ ص ] هذا القرآن ، لا عن طريق الوحي الذي لا يرونه ؛ ولكن في ورقة منظورة ملموسة محسوسة ؛ ثم لمسوا هم هذه الورقة بأيديهم - لا سماعا عن غيرهم ، ولا مجرد رؤية بعيونهم - ما سلموا بهذا الذي يرونه ويلمسونه ، ولقالوا جازمين مؤكدين :
وهي صورة صفيقة ، منكرة ، تثير الاشمئزاز ، وتستعدي من يراها عليها ! صورة تثير النفس لتتقدم فتصفعها ! حيث لا مجال مع هذه الجبلات لحجة أو جدل أو دليل !
وتصويرها على هذا النحو - وهي صورة تمثل حقيقة لنماذج مكرورة - يؤدي غرضين أو عدة أغراض :
إنه يجسم للمعارضين أنفسهم حقيقة موقفهم الشائن الكريه البغيض ؛ كالذي يرفع المرآة لصاحب الوجه الشائه والسحنة المنكرة ، ، ليرى نفسه في هذه المرآة ، ويخجل منها !
وهو في الوقت ذاته يستجيش ضمائر المؤمنين تجاه إعراض المشركين وإنكار المنكرين ؛ ويثبت قلوبهم على الحق ، فلا تتأثر بالجو المحيط من التكذيب والإنكار والفتنة والإيذاء .
كذلك هو يوحي بحلم الله الذي لا يعجل على هؤلاء المعارضين المكذبين ، وهم في مثل هذا العناد المنكر الصفيق .
وكلها أسلحة وحركة في المعركة التي كانت تخوضها الجماعة المسلمة بهذا القرآن في مواجهة المشركين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هََذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ } . .
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربهم الأوثان والاَلهة والأصنام . يقول تعالى ذكره : وكيف يتفقّهون الاَيات ، أم كيف يستدلون على بطلان ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله وجحود نبوّتك بحجج الله وآياته وأدلته ، وهم لعنادهم الحقّ وبعدهم من الرشد ، لو أنزلت عليك يا محمد الوحي الذي أنزلته عليك مع رسولي في قرطاس يعاينونه ويمسّونه بأيديهم وينظرون إليه ويقرءونه منه معلقا بين السماء والأرض بحقيقة ما تدعوهم إليه وصحة ما تأتيهم به من توحيدي وتنزيلي ، لقال الذين يعدلون بي غيري فيشركون في توحيدي سواي : إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِين : أي ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرت به أعيننا ، ليست له حقيقة ولا صحة مُبِينٌ يقول : مبين لمن تدبره وتأمله أنه سحر لا حقيقة له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : كِتابا في قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بأيْدِيهِمْ قال : فمسوه ونظروا إليه لم يصدّقوا به .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْ نَزّلْنا عَلَيْكَ كِتابا في قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بأيدِيهِمْ يقول : فعاينوه معاينة لقال الذين كفروا : إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتابا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بأيْدِيهِمْ يقول : لو نزلنا من السماء صحفا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم ، لزادهم ذلك تكذيبا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلَوْ نَزّلْنا عَلَيْكَ كِتابا في قِرْطاسٍ : الصحف .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : في قِرْطاسٍ يقول : في صحيفة ، فَلَمَسُوهُ بأيْديهِمْ لقال الذين كفروا : إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ .
{ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس } مكتوبا في ورق . { فلمسوه بأيديهم } فمسوه ، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا ، ولأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع ، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله : { وإنا لمسنا السماء } { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } تعنتا وعنادا .
لما أخبر عنهم عز وجل بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية تبع ذلك إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا أيضاً ، والمعنى { لو نزلنا } بمرأى منهم عليك { كتاباً } أي كلاماً مكتوباً { في قرطاس } أي في صحيفة ، ويقال «قُرطاس » بضم القاف { فلمسوه بايديهم } يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا هذا سحر مبين ، ويشبه أن سبب هذه الآية اقتراح عبد الله بن أبي امية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية ، يأمرني بتصديقك ، وما أراني مع هذا كنت أصدقك ، ثم أسلم بعد ذلك عبد الله وقتل شهيداً في الطائف .
يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم } الخ ، وما بينهما جملاً تعلّقت بالجملة الأولى على طريقة الاعتراض ، فلمّا ذكر الآيات في الجملة الأولى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضحَ الآيات دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن ينزّل الله عليه كتاباً من السماء على صورة الكتب المتعارفة ، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لمَّا آمنوا ولادّعوا أنّ ذلك الكتاب سحر .
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير { كذّبوا } في قوله : { فقد كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم } أي أنكروا كون القرآن من عند الله ، وكونه آية على صدق الرسول ، وزعموا أنّه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء ، فإنّهم قالوا : { لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة } وقالوا { حتى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه } فكان قوله : { فقد كذّبوا بالحقّ لما جاءهم } مشتملاً بالإجمال على أقوالهم فصحّ مجيء الحال منه . وما بينهما اعتراض أيضاً .
وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفراً أم رسالة ، وعلى الثاني فالمراد بكتابٍ سفرٌ أي مثل التوراة .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لا محالة لأنّ كلّ كلام ينزل من القرآن موجّه إليه لأنّه المبلّغ ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الانتقال . وليس يلزم أن يكون المراد كتاباً فيه تصديقه بل أعمّ من ذلك .
وقوله : { في قرطاس } صفة لكتاب ، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه . والقرطاس بكسر القاف على الفصيح ، ونقل ضمّ القاف وهو ضعيف . وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رَقّ ومن بَرْدى ومن كاغد ، ولا يختصّ بما كان من كاغد بل يسمّى قرطاساً ما كان من رقّ . ومن النّاس من زعم أنّه لا يقال قرطاس إلاّ لما كان مكتوباً وإلاّ سمّي طَرساً ، ولم يصحّ . وسمّى العرب الأديم الذي يجعل غرضاً لمتعلّم الرمي قرطاساً فقالوا : سَدّد القرطاس ، أي سدّد رميه . قال الجواليقي : القرطاس تكلّموا به قديماً ويقال : إنّ أصله غير عربي . ولم يذكر ذلك الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس ، وأثبته الخفاجي في شفاء الغليل . وقال : كان معرّباً فلعلّه معرّب عن الرومية ، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم ( كارتا ) .
وقوله : { فَلَمسوه } عطف على { نزّلنا } . واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده ، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة ، ومن برودة أو حرارة ، أو نحو ذلك . فقوله : { بأيديهم } تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازاً في التأمّل ، كما في قوله تعالى : { وإنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئَت حرساً شديداً وشهباً } ، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب ، وللتمهيد لقوله : { لقال الذين كفروا إن هذا إلاّ سحر مبين } لأنّ المظاهر السحرية تخيّلات لا تلمس .
وجاء قوله : { الذين كفروا } دون أن يقول : لقالوا ، كما قال : { فلمسوه } إظهاراً في مقام الإضمار لقصد تسجيل أنّ دافعهم إلى هذا التعنّت هو الكفر ، لأنّ الموصول يؤذن بالتعليل .
ومعنى : { إن هذا إلاّ سحر مبين } أنّهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم . وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلّق بالمعاذير الكاذبة .
والمبين : البيّن الواضح ، مشتقّ من ( أبان ) مرادف ( بان ) . وتقدّم معنى السحر عند قوله تعالى : { يعلّمون الناس السحر } في سورة البقرة ( 102 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم}، ما صدقوا به، و {لقال الذين كفروا} من أهل مكة، {إن هذا}: ما هذا القرآن، {إلا سحر مبين}، يعني بيّن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربهم الأوثان والآلهة والأصنام. يقول تعالى ذكره: وكيف يتفقّهون الآيات، أم كيف يستدلون على بطلان ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله وجحود نبوّتك بحجج الله وآياته وأدلته، وهم لعنادهم الحقّ وبعدهم من الرشد، لو أنزلت عليك يا محمد الوحي الذي أنزلته عليك مع رسولي في قرطاس يعاينونه ويمسّونه بأيديهم وينظرون إليه ويقرؤونه منه معلقا بين السماء والأرض بحقيقة ما تدعوهم إليه وصحة ما تأتيهم به من توحيدي وتنزيلي، لقال الذين يعدلون بي غيري فيشركون في توحيدي سواي:"إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِين": أي ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرت به أعيننا، ليست له حقيقة ولا صحة "مُبِينٌ "يقول: مبين لمن تدبره وتأمله أنه سحر لا حقيقة له.
عن ابن عباس، قوله: "وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتابا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بأيْدِيهِمْ "يقول: لو نزلنا من السماء صحفا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم، لزادهم ذلك تكذيبا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
.. يخبر لشدة تعنتهم [أنهم، وإن أوتوا] ما سألوا من الآيات لم يؤمنوا به، لأنهم كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل كتابا يعاينونه، ويقرؤونه كقوله: {ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه} [الإسراء: 93] وكقوله: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] ونحوه من الآيات. يقول: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس} أي في صحيفة مكتوبا يعلمون أنه لم يكتب في الأرض، ولمسوه بأيديهم، وعاينوه، لم يؤمنوا به، ولا صدقوه، وقالوا: {إن هذا إلا سحر مبين} يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون، ويخبره بشدة تعنتهم أنهم لا يؤمنون، وإن جئت بكل آية؛ إذ قد أتاهم من الآيات ما إن تأملوا، ولم يتعنتوا دلتهم على ذلك، لكنهم أعرضوا عنها، ولم يتأملوا فيها لتعنتهم وشدة مكابرتهم، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} لأن مشركي قريش لما أنكروا نزول القرآن أخبر الله أنه لو أنزله عليهم من السماء لأنكروه وكفروا به لغلبة الفساد عليهم، فقال: {ولَوْ نَزَّلنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} واسم القرطاس لا ينطلق إلا على ما فيه كتابة، فإن لم يكن فيه كتابة قيل طرس ولم يقل قرطاس... {فَلَمَسُوهُ بِأَيِدِيهِمْ} قال ذلك تحقيقاً لنزوله عليهم. ويحتمل بلمس اليد دون رؤية العين ثلاثة أوجه: أحدها: أن نزوله مع الملائكة وهم لا يرون بالأبصار، فلذلك عَبَّر عنه باللمس دون الرؤية. والثاني: لأن الملموس أقرب من المرئي. والثالث: لأن السحر يتخيل في المرئيات، ولا يتخيل في الملموسات. {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} تكذيباً لليقين بالعناد، والمبين: ما دل على بيان بنفسه، والبيِّن: ما دل غيره على بيانه، فكان المبين أقوى من البيِّن.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كتابا} مكتوباً {فِي قِرْطَاسٍ} في ورق {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ولم يقتصر بهم على الرؤية، لئلا يقولوا سكرت أبصارنا، ولا تبقى لهم علة. لقالوا {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
..لما أخبر عنهم عز وجل بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية تبع ذلك إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا أيضاً، والمعنى {لو نزلنا} بمرأى منهم عليك {كتاباً} أي كلاماً مكتوباً {في قرطاس} أي في صحيفة، ويقال «قُرطاس» بضم القاف {فلمسوه بأيديهم} يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا هذا سحر مبين..
... اعلم أن الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف كثيرة، فالطائفة الأولى الذين بالغوا في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها إلى أن استغرقوا فيها واغتنموا وجدانها، فصار ذلك مانعا لهم عن قبول دعوة الأنبياء، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وبين أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات المنقرضة الخسيسة، والطائفة الثانية الذين يحملون معجزات الأنبياء عليهم السلام، على أنها من باب السحر لا من باب المعجزة، هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية، وهاهنا مسائل: المسألة الأولى: بين الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به، بل حملوه على أنه سحر ومخرقة، والمراد من قوله {في قرطاس} أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة، فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولو نزلنا} أي على ما لنا من العظمة {عليك كتاباً} أي مكتوباً من السماء {في قرطاس} أي ورق، إجابة لما أشار عليهم اليهود باقتراحه، ثم حقق أنه واضح الأمر، ليس بخيال ولا فيه نوع لبس بقوله: {فلمسوه} أي زيادة على الرؤية. وزاد في التحقيق والتصوير ودفع التجوز بقوله: {بأيديهم لقال} وأظهر ولم يضمر تعليقاً للحكم بالوصف وتنبيهاً على أن من الموجودين من يسكت ويؤمن ولو بعد ذلك فقال: {الذين كفروا} أي حكماً بتأبد كفرهم ستراً للآيات عناداً ومكابرة، ولعله أسقطُ منهم إشارة إلى عموم دعوته، أي من العرب ومن غيرهم من أمة دعوتك ولا سيما اليهود المشار إلى تعنتهم وكذبهم بقوله {يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء} [النساء: 153] {إن} أي ما {هذا إلاّ سحر} أي تمويه وخيال لا حقيقة له، وزادوا في الوقاحة فقالوا: {مبين} أي واضح ظاهر، قال صاحب كتاب الزينة: معنى السحر في كلام العرب التعليل بالشيء والمدافعة به والتعزير بشيء لا محصول له، يقال: سحره -إذا علله وعزره وشبه عليه حتى لا يدري من أين يتوجه ويقلب عن وجهه، فكأن السحرة يعللون الناس بالباطل ويشبهون الباطل في صورة الحق ويقلبونه عن جهته.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بينا في تفسير الآيات السابقة أن الثلاث الأولى منها قد أرشدت إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث والآيات الدالة عليهما، وأن الثلاث التي بعدها أرشدت إلى سبب تكذيب قريش بذلك وهو الحق المبين بالدليل، وأنذرتهم عاقبة هذا التكذيب، وهو ما يحل بهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وإنه لا يحول دونه ما هم مغرورون به من قوتهم وضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكنهم في أرض مكة وهي أم القرى وأهلها قدوة العرب. وقد بين تعالى في هذه الآيات الثلاث شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحي وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فتم بيان أسباب جحودهم بأركان الإيمان كلها كما سبقت الإشارة إلى ذلك...
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجب من كفر قومه وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه، وظهور إعجازه، وكان يضيق صدره لذلك وينال منه الحزن والأسف كما قال تعالى في سورة هود: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} [هود: 12] وما في معناه-وكان الله عز وجل يبين له أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم واختلاف استعدادهم ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة، والشبهة مهما تكن داحضة، فإن ذلك لا يستلزم الإيمان بما قامت عليه الحجة، وانحسرت عنه غمة الشبهة، إلا في حق من كان مستعدا له، وزالت موانع الكبر والعناد أو التقليد عنه.
ولو أننا أنزلنا عليك كتابا من السماء في قرطاس كما اقترحوا فرأوه نازلا منها بأعينهم، ولمسوه عند وصوله إلى الأرض بأيديهم، لقال الذين كفروا منهم كفر العناد والاستكبار: ما هذا الذي رأينا ولمسنا إلا سحر بين في نفسه، ثابت في نوعه، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابا ولمسناه، وما ثم كتاب نزل، ولا قرطاس رؤي ولا لمس. وكذلك قال أمثالهم في آيات الأنبياء من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا...
والرؤية واللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها عن الخداع ولا سيما إذا اجتمعا، والثقة باللمس أقوى لأن البصر قد يخدع بالتخيل...
والآية تدل على أن السحر خداع باطل، وتخييل يري ما لا حقيقة له في صورة الحقائق...
فقد نص القرآن على أن السحر تخييل لما ليس واقعا، وأنه كيد ومكر، وأنه يتعلم تعلما...فتعين أن يكون السحر باطلا لا حقا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي السياق يصور طبيعة العناد، التي ينبعث منها ذلك الإعراض؛ فيرسم نموذجا عجيبا من النفوس البشرية.. ولكنه نموذج مع ذلك مكرور، يجده الإنسان في كل عصر وفي كل بيئة وفي كل جيل.. نموذج النفس المكابرة، التي يخرق الحق عينها ولا تراه! والتي تنكر ما لا ينكر لأنه من الوضوح بحيث يخجل المخالف أن ينكره! على الأقل من باب الحياء!.. والقرآن يرسم هذا النموذج شاخصا في كلمات قلائل، على طريقة التعبير القرآني المبدعة المعجزة في التعبير والتصوير:
(ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين)..
إنه ليس الذي يجعلهم يعرضون عن آيات الله، أن البرهان على صدقها ضعيف، أو غامض، أو تختلف فيه العقول. إنما الذي يجعلهم يقفون هذا الموقف هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق! وهو الإصرار مبدئيا على الرفض والإنكار وعدم اعتبار البرهان أو النظر إليه أصلا! ولو أن الله -سبحانه- نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، لا عن طريق الوحي الذي لا يرونه؛ ولكن في ورقة منظورة ملموسة محسوسة؛ ثم لمسوا هم هذه الورقة بأيديهم -لا سماعا عن غيرهم، ولا مجرد رؤية بعيونهم- ما سلموا بهذا الذي يرونه ويلمسونه، ولقالوا جازمين مؤكدين:
وهي صورة صفيقة، منكرة، تثير الاشمئزاز، وتستعدي من يراها عليها! صورة تثير النفس لتتقدم فتصفعها! حيث لا مجال مع هذه الجبلات لحجة أو جدل أو دليل!
وتصويرها على هذا النحو -وهي صورة تمثل حقيقة لنماذج مكرورة- يؤدي غرضين أو عدة أغراض:
إنه يجسم للمعارضين أنفسهم حقيقة موقفهم الشائن الكريه البغيض؛ كالذي يرفع المرآة لصاحب الوجه الشائه والسحنة المنكرة،، ليرى نفسه في هذه المرآة، ويخجل منها!
وهو في الوقت ذاته يستجيش ضمائر المؤمنين تجاه إعراض المشركين وإنكار المنكرين؛ ويثبت قلوبهم على الحق، فلا تتأثر بالجو المحيط من التكذيب والإنكار والفتنة والإيذاء.
كذلك هو يوحي بحلم الله الذي لا يعجل على هؤلاء المعارضين المكذبين، وهم في مثل هذا العناد المنكر الصفيق.
وكلها أسلحة وحركة في المعركة التي كانت تخوضها الجماعة المسلمة بهذا القرآن في مواجهة المشركين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... أي إن هؤلاء لا ينقصهم الدليل ولكن ينقصهم التوجه وأخذ أمر الدين بعناية وتفكير واتجاه سليم لطلبه فإن الاتجاه المخلص يجعل النفس تشرق، وتمتلئ بالحكمة، فيقنعها الدليل وهؤلاء المغرضون ينقصهم ذلك الاتجاه المستقيم الذي يملأهم بالنور ويشرق في قلوبهم طلب الحكمة والنزوع إليها، وعلى ذلك لا تجدى فيهم الآيات مهما تكن قوة الدليل وحسيته. وفي النص القرآني مقامات بيانية تقرب معناها السامي وإن كان بينا في ذاته. الأول: (لو نزلنا عليك كتابا في قرطاس) (لو) هنا حرف امتناع لامتناع أي أن الله سبحانه يمتنع عن أن يفعل ذلك، لأنه عبث لا يليق أن يصدر عن ذاته العلية إذ لا ثمرة له، فلن يؤمنوا مهما تكن قوة الدليل وذلك مثل قوله تعالى: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون 14 لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون 15) (الحجر) فالكلام القرآني في مضمونه هنا يحكم بأن الهداية السامية لا تفتح لها قلوبهم المعرضة المتحيرة المركسة في الضلالة. وقوى سبحانه وتعالى امتناع هدايتهم، إذا جاءتهم آية بان لو نزل عليهم مكتوب من السماء محفوظ في قرطاس متضمن معنى رسالة الله تعالى، ولمسوه بأيدهم للدلالة على العلم الحسي الذي لا ريب فيه ولا شك، لا يؤمنون فتأكدت لديهم رسالة الله تعالى بأمور ثلاثة بهذا المكتوب الذي وضع في غلافه وبلمسه بالحس لديهم وبكون اللمس بكل الأيدي والجوارح. المقام الثاني: أنهم لا يقابلون ذلك بالتصديق والإقبال والإذعان بل ينتحلون الأعذار لكفرهم ولا يجدون مساغا إلا ادعاء السحر يلجأون إليه مع ان السحر تخييل وتسكير للإبصار وهذا فيه لمس بالأيدي فلم يقتصروا على الرؤية حتى يقولوا: إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ومع ذلك يبهتون الحق ويجابهون الواقع ويقولون مؤكدين: (إن هذا إلا سحر مبين). الثالث أن الله تعالى حكم سبحانه بعدله بأن ذلك قول الذين كفروا منهم ففي ذلك إشارة إلى أمرين: الأول: الإشارة إلى أن الذين يقولون هم الذين كفروا وأن هناك في مقابلهم مؤمنين يذعنون للحق ويصدقون الآيات. الثاني: أن السبب هو الكفر والجحود والإعراض فلا يؤمنون بآية مهما تكن قوتها في الدلالة لإعراض القلوب وعدم اتجاهها إلى الحق، بل أنها مظلمة معتمة لا يدخل إليها النور مهما يكن وضاء. الرابع: أنهم لفرط جحودهم وإغلاق قلوبهم يؤكدون أنه سحر مع اللمس بالأيدي وقد أكدوا حكمهم الباطل أولا بالنفى والإثبات أي أنه مقصور على أنه سحر ثانيا بالإشارةاليه وذكروا أنه بين واضح. ثالثا: والمعنى الجملي أنه لا تجدي فيهم معجزة ولا دليل ويؤكد هذا قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ 111) (الأنعام).
الحق يعلم أن قلوب بعض المنكرين قد صارت غفلا لا يدخلها الإيمان ولا يخرج منها الباطل – كما أراد هو لهم – فلو نزل إليهم كتابا من قرطاس ليكون في مجال رؤية العين ولمسوه بأيديهم فلن يؤمنوا. ويأتي أمر لمس الكتاب بالأيدي؛ لأن اللمس هو الحاسة التي يشترك فيها الجميع حتى الأعمى منهم، وبرغم ذلك فسيكذبون قائلين: {إن هذا إلا سحر مبين} ومثل هذا الرد لا ينبع عن عقل أو تدبر أو حكمة. ولا يتناسب مع القوم الذين عرفوا بالبلاغة والفصاحة، وبحسن القول والصياغة؛ لأن السحر يغير من رؤية الناس للواقع، ومادام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متهما بالسحر منهم فلماذا لم يسحرهم هم، ولماذا استعصوا هم بالذات على السحر؟ والمسحور ليس له عمل ولا إرادة مع الساحر، ولو كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ساحر لصنع من السحر ما يجعلهم يؤمنون...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويستمر الوحي القرآني في استعراض ملامح الأسلوب السلبي الذي يتبعه الكافرون أمام الرسالات، مهما قدّمت لهم من بينات، ومهما استجابت لهم من مقترحات، فهم ينتقلون من اقتراحٍ إلى اقتراحٍ، فإذا استجيب لهم في بعضها كانت كلمة السحر هي التفسير الذي يواجهون به المعجزة.. وبدأوا يثيرون أمام الرسول اقتراحاً جديداً، لأنهم لا يجيدون التفكير بطريقة توصل إلى الإيمان، بل كل ما عندهم هو الشغب والشك وإثارة الشبهات ليشغلوا الساحة بذلك كله، فيبتعد المؤمنون عن القضايا الحيّة في الدعوة إلى الله والعمل في سبيله. وبهذا جاءت هذه الآية، فقد كانوا أثاروا أمام النبي (ص) أن يُنزل عليهم كتاباً من السماء. وتنطلق كلمات الآية لتكشف ما في داخلهم من عدم الجدّية في هذا الطلب، لأنهم لا يعيشون مشكلة فقدان الحجة لتكون هذه الآية السماوية حجة عليهم، بل يعيشون حالة انعدام الإرادة في الإيمان.. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ولذلك فلو أن الله أنزل إليهم كتاباً فلمسوه بأيديهم {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، فإن ردّ فعلهم لن يكون إلا أن يقولوا {إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}...