وبعد هذا الاستطراد بمناسبة دعواهم على الحق الذي جاءهم فأعرضوا عنه واتهموه . . يعود السياق إلى استنكار موقفهم ، وإلى مناقشة الشبهات التي يمكن أن تصدهم عما جاءهم به الرسول الأمين :
( أم تسألهم خرجا ? )فهم يفرون مما تسألهم من أجر على الهداية والتعليم ? ! فإنك لا تطلب إليهم شيئا ، فما عند ربك خير مما عندهم : ( فخراج ربك خير وهو خير الرازقين ) . . وماذا يطمع نبي أن ينال من البشر الضعاف الفقراء المحاويج وهو متصل بالفيض اللدني الذي لا ينضب ولا يغيض ؛ بل ماذا يطمع أتباع نبي أن ينالوا من عرض هذه الأرض وهم معلقو الأنظار والقلوب بما عند الله الذي يرزق بالكثير وبالقليل ? ألا إنه يوم يتصل القلب بالله يتضاءل هذا الكون كله ، بما فيه وكل من فيه !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * وَإِنّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : أم تسأل هؤلاء المشركين يا محمد من قومك خَراجا ، يعني أجرا على ما جئتهم به من عند الله من النصيحة والحقّ فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ : فأجر ربك على نفاذك لأمره ، وابتغاء مرضاته خير لك من ذلك ، ولم يسألهم صلى الله عليه وسلم على ما أتاهم به من عند الله أجرا ، قال لهم كما قال الله له ، وأمره بقيله لهم : قُلْ لا أسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُربى وإنما معنى الكلام : أم تسألهم على ما جئتهم به أجرا ، فنكصُوا على أعقابهم إذا تلوتَه عليهم ، مستكبرين بالحرم ، فخراج ربك خير .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : أمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجا فخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ قال : أجرا .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن ، مثله .
وأصل الخراج والخَرْج : مصدران لا يُجْمعان .
وقوله : وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ يقول : والله خير من أعطى عوضا على عمل ورزق رزقا .
{ أم تسألهم } قيل أنه قسيم قوله { أم به جنة } . { خرجا } أجرا على أداء الرسالة . { فخراج ربك } رزقة في الدنيا أو ثوابه في العقبى . { خير } لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك ، والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه ، وقرأ ابن عامر " خرجا فخرج " وحمزة والكسائي " خراجا فخراج " للمزاوجة . { وهو خير الرازقين } تقرير لخيرية خراجه تعالى .
هذا توبيخ لهم كأنه قال : أم سألتهم مالاً فقلقوا بذلك واستثقلوا من أجله ، وقرأ حمزة والكسائي «خراجاً فخراج » وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «خرجاً فخراج » وقرأ ابن عامر «خرجاً فخرج » وهو المال الذي يجيء ويؤتى به لأوقات محدودة ، قال الأصمعي : الخرج الجعل مرة واحدة والخراج ما تردد لأوقات ما ، ع وهذا فرق استعمالي وإلا فهما في اللغة بمعنى ، وقد قرىء «خراجاً » في قصة ذي القرنين{[8528]} وقوله { فخراج ربك } يريد ثوابه سماه «خراجاً » من حيث كان معادلاً للخراج في هذا الكلام ، ويحتمل أن يريد { فخراج ربك } رزق ربك ويؤيد هذا قوله { وهو خير الرازقين } .
( أم ) عاطفة على { أم يقولون به جنة } [ المؤمنون : 70 ] وهي للانتقال إلى استفهام آخر عن دواعي إعراضهم عن الرسول واستمرار قلوبهم في غمرة .
والاستفهام المقدر هنا إنكاري ، أي ما تسألهم خرجاً فيعتذروا بالإعراض عنك لأجله شحاً بأموالهم . وهذا في معنى قوله تعالى { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } [ سبأ : 47 ] على سبيل الفرض ، والتقدير : إن كنتُ سألتكم أجراً فقد رددته عليكم فماذا يمنعكم من اتباعي . وقوله : { أم تسألهم أجراً فهم من مَغرم مُثقلون } [ القلم : 46 ] كل ذلك على معنى التهكم . وأصرح منهما قوله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] .
وهذا الانتقال كان إلى غرض نفي أن يكون موجب إعراضهم عن دعوة الرسول جائياً من قِبله وتسببه بعد أن كانت الاستفهامات السابقة الثلاثة متعلقة بموجبات الإعراض الجائية من قبلهم ، فالاستفهام الذي في قوله { أم تسألهم خرجاً } إنكاري إذ لا يجوز أن يصدر عن الرسول ما يوجب إعراض المخاطبين عن دعوته فانحصرت تبعة الإعراض فيهم .
والخرج : العطاء المعيّن على الذوات أو على الأرضين كالإتاوة ، وأما الخراج فقيل هو مرادف الخرج وهو ظاهر كلام جمهور اللغويين . وعن ابن الأعرابي : التفرقة بينهما بأن الخرج الإتاوة على الذوات والخراج الإتاوة على الأرضين .
وقيل الخرج : ما تبرع به المعطي والخراج : ما لزمه أداؤه . وفي « الكشاف » : والوجه أن الخرج أخص من الخراج ( يريد أن الخرج أعم كما أصلح عبارته صاحب « الفرائد » في نقل الطيبي ) كقولك خراج القرية وخرج الكردة{[281]} زيادة اللفظ لزيادة المعنى ، ولذلك حسنت قراءة من قرأ { خرجاً فخراج ربك خير } يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير » اه .
وهذا الذي ينبغي التعويل عليه لأن الأصل في اللغة عدم الترادف .
هذا وقد قرأ الجمهور { أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير } . وقرأ ابن عامر { خرجاً فخرج ربك } . وقرأ حمزة والكسائي وخلف { أم تسألهم خراجا فخراج ربك خير } . فأما قراءة الجمهور فتوجيهها على اعتبار ترادف الكلمتين أنها جرت على التفنن في الكلام تجنباً لإعادة اللفظ في غير المقام المقتضي إعادة اللفظين مع قرب اللفظين بخلاف قوله تعالى { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } [ سبأ : 47 ] فإن لفظ أجر أعيد بعد ثلاثة ألفاظ .
وأما على اعتبار الفرق الذي اختاره الزمخشري فتوجيهها باشتمالها على التفنن وعلى محسن المبالغة .
وأما قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف فتوجيهها على طريقة الترادف أنهما وردتا على اختيار المتكلم في الاستعمال مع محسن المزاوجة بتماثل اللفظين . ولا توجهان على طريقة الزمخشري .
قال صاحب « الكشاف » : ألزمهم الله الحجة في هذه الآيات ( أي قوله { أفلم يدبروا القول } [ المؤمنون : 68 ] إلى هنا ) وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله ، مخبور سره وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يُعْرَض{[282]} له حتى يدّعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل . واستهتارهم بدين الآباء الضُّلاَّل من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة ، وكراهتُهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر » اه .
وجملة { وهو خير الرازقين } معترضة تكميلاً للغرض بالثناء على الله والتعريف بسعة فضله . ويفيد تأكيداً لمعنى { فخراج ربك خير } .