( فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي . هذا أكبر . فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين )
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءا وحرارة . . الشمس . . والشمس تطلع كل يوم وتغيب . ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد . إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه ؛ ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل :
( قال : هذا ربي . هذا أكبر ) .
هنا يقع التماس ، وتنطلق الشرارة ، ويتم الاتصال بين الفطرة الصادقة والله الحق ، ويغمر النور القلب ويفيض على الكون الظاهر وعلى العقل والوعي . . هنا يجد إبراهيم إلهه . . يجده في وعيه وإدراكه كما هو في فطرته وضميره . . هنا يقع التطابق بين الإحساس الفطري المكنون والتصور العقلي الواضح . .
وهنا يجد إبراهيم إلهه . ولكنه لا يجده في كوكب يلمع ، ولا في قمر يطلع ، ولا في شمس تسطع . . ولا يجده فيما تبصر العين ، ولا فيما يحسه الحس . . إنه يجده في قلبه وفطرته ، وفي عقله ووعيه ، وفي الوجود كله من حوله . . إنه يجده خالقا لكل ما تراه العين ، ويحسه الحس ، وتدركه العقول .
وعندئذ يجد في نفسه المفاصلة الكاملة بينه وبين قومه في كل ما يعبدون من آلهة زائفة ؛ ويبرأ في حسم لا مواربة فيه من وجهتهم ومنهجهم وما هم عليه من الشرك - وهم لم يكونوا يجحدون الله البتة ، ولكنهم كانوا يشركون هذه الأرباب الزائفة - وإبراهيم يتجه إلى الله وحده بلا شريك :
{ فَلَماّ رَأَى الشّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هََذَا رَبّي هََذَآ أَكْبَرُ فَلَمّآ أَفَلَتْ قَالَ يَقَوْمِ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ } . .
يعني تعالى ذكره ( بقوله ) : فَلَمّا رأى الشّمْسَ بازِغَةً فلما رأى إبراهيم الشمس طالعة ، قالَ هَذا الطالع رَبي هَذَا أكْبَرُ يعني : هذا أكبر من الكوكب والقمر ، فحذف «ذلك » لدلالة الكلام عليه . فَلَمّا أفَلَتْ يقول : فلما غابت ، قالَ إبراهيم لقومه : يا قَوْمَ إنّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ : أي من عبادة الاَلهة والأصنام ودعائه إلها مع الله تعالى .
قوله : { فلمَّا رأى الشمس بازغة } أي في الصباح بعد أن أفل القمر ، وذلك في إحدى الليالي التي يغرب فيها القمر قبيل طلوع الشمس لأنّ الظاهر أنّ هذا الاستدلال كلّه وقع في مجلس واحد .
وقوله للشمس { هذا ربِّي } باسم إشارة المذكّر مع أنّ الشمس تجري مجرى المؤنّث لأنّه اعتبرها ربّاً ، فروعي في الإشارة معنى الخبر ، فكأنَّه قال : هذا الجرْم الذي تدعونه الشمس تبيّن أنَّه هو ربِّي . وجملة { هذا ربي } جارية مجرى العلَّة لجملة { هذا ربِّي } المقتضية نقض ربوبية الكوكب والقمر وحصر الرّبوبيّة في الشمس ونفيها عن الكوكب والقمر ، ولذلك حذف المُفضّل عليه لظهوره ، أي هو أكبر منهما ، يعني أن الأكبر الأكثر إضاءة أولى باستحقاق الإلهية .
وقوله : { قال يا قوم إنِّي بريء ممَّا تشركون } ، إقناع لهم بأنْ لا يحاولوا موافقته إيَّاهم على ضلالهم لأنَّه لما انتفى استحقاق الإلهية عن أعظم الكواكب التي عبدوها فقد انتفى عمَّا دونها بالأحرى .
والبريء فعيل بمعنى فَاعِل من بَرىءَ بكسر الرّاء لا غير يَبرَأ بفتح الرّاء لا غير بمعنى تفصّى وتنزّه ونفَى المخالطة بينه وبين المجرور ب ( مِن ) . ومنه { أن الله بريء من المشركين } [ التوبة : 3 ] ، { فبرّأهُ الله ممَّا قالُوا } [ الأحزاب : 69 ] ، { وما أبرّىء نفسي } [ يوسف : 53 ] . فمعنى قوله { بريء } هنا أنَّه لا صلة بينه وبين ما يشركون .
والصلة في هذا المقام هي العبادة إن كان ما يشركون مراداً به الأصنام ، أو هي التلبّس والاتِّباع إن كان ما يشركون بمعنى الشرك .
والأظهر أنّ ( ما ) في قوله { ما تشركون } موصولة وأنّ العائد محذوف لأجل الفاصلة ، أي ما تشركون به ، كما سيأتي في قوله : { ولا أخاف ما تشركون به } [ الأنعام : 80 ] لأنّ الغالب في فعل البراءة أن يتعلَّق بالذوات ، ولئلاّ يتكرّر مع قوله بعده { وما أنا من المشركين } . ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية ، أي من إشراككم ، أي لا أتقلَّده .
وتسميته عبادتهم الأصنام إشراكاً لأنّ قومه كانوا يعترفون بالله ويشركون معه في الإلهية غيره كما كان إشراك العرب وهو ظاهر أي القرآن حيث ورد فيها الاحتجاج عليهم بخالق السماوات والأرض ، وهو المناسب لضرب المثل لمشركي العرب بشأن إبراهيم وقومه ، ولقوله الآتي { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [ الأنعام : 82 ] .