اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَآ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّآ أَفَلَتۡ قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ} (78)

إنما ذكر اسم الإشارة مذكراً والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه :

إما ذهاباً بها مذهب الكواكب ، وإما ذهاباً بها مذهب الضوء والنور ، وإما بتأويل الطَّالع أو الشخص ؛ كما قال الأعشى : [ السريع ]

قَامَتْ تُبَكِّيهِ عَلَى قَبْرِهِ *** مَنْ لِيَ بَعْدكَ يَا عَامِرُ

تَرَكْتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ *** قَدْ ذَلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرُ{[14361]}

أو الشيء ، أو لأنه لما أخبر عنها بمذكَّرٍ أعْطِيَتْ حُكْمَه ؛ تقول : هند ذاك الإنسان وتيك الإنسان ؛ قال : [ البسيط ]

تَبِيتُ نُعْمَى عَلَى الهِجْرَانِ غَائِبَةً *** سَقْياً ورعْياً لِذاكَ الغَائِبِ الزَّاري{[14362]}

فأشار إلى " نعمى " وهي مؤنث إشارةَ المُذكرِ لوصفها بوصف الذكور ، أو لأن فيها لُغَتَيْنِ : التذكير والتأنيث ، وإن كان الأكثر التأنيث ، فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فأنَّث في قوله : " بازغة " ، وذكَّرَ في قوله : " هذا " .

وقال الزمخشري{[14363]} : " جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارةً عن شيء واحد ؛ كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومن كانت أمك ، و{ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا } [ الأنعام :23 ] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرَّبِّ عن شُبْهَةِ التأنيث ، إلا تَرَاهُمْ قالوا في صفة الله : علاَّم ، ولم يقولوا : عَلاَّم ، وإن كان أبْلَغَ ، احترازاً من علامة التأنيث " .

قلت : وهذا قريبٌ مِمَّا تقدَّم في أن المؤنث إذا أخبر عنه بمذكَّرِ عومل معاملة المُذكَّرِ ، نحو : " هند ذاك الإنسان " .

وقيل : لأنها بمعنى : هذا النَّيِّر ، أو المرئي .

قال أبو حيَّان{[14364]} : " ويمكن أن يقال : إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ، ولا في الإشارة بين المُذَكَّرِ والمؤنث سواء ، فلذلك أشار إلى المؤنَّثِ عندنا حين حكى كلام إبراهيم بما يشار به إلى المذكر ، بل لو كان المؤنث بِفَرْجٍ لم يكن له علامة تَدُلُّ عليه في كلامهم ، وحين أخبر -تعالى- عنها بقوله : " بَازِغَةً " و " أفَلَتْ " أتت على مقتضى العربية ، إذ ليس ذلك بحكاية " انتهى .

وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بِعَيْنِهِ في لغتهم ، أما شيء يعبر عنه بلغة العرب ، ويعطى حكمه في لغة العَجَمِ ، فهو مَحَلُّ نَظَرٍ .

فصل في بيان سبب تسمية العبرية والسريانية .

قال الطبري : إن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إنما نطق بالعبرانية حين عَبَرَ النَّهْرَ فارّاً من النَّمْرُودِ حيث قال للذين أرسلهم في طلبه : إذا وجدتم من يتكلم بالسريانية فأتُونِي به ، فلما أدْرَكُوه اسْتَنْطَقُوهُ ، فَحوَّلَ الله نُطْقَهُ لساناً عبرانياً ، وذلك حين عبر النَّهْرَ ، فسميت العبرانية لذلك .

وأما السُّرْيَانِيَّةُ فذكر ابن سلام أنها سميت بذلك ؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- حين علم آدم الأسماءَ علَّمهُ سِرّاً من الملائكة ، وأنطقه بها حينئذ ، فَسُمِّيتِ السريانية لذلك ، والله أعلم .

قوله : " هَذَا أكْبَرُ " أي : أكبر الكواكب جِرْماً ، وأقواها قوة ، فكان أوْلَى بالإلهية ، قوله : { إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } " ما " مصدرية ، أي : بريء من إشراككم ، أو موصولة أي : من الذين يشركونه مع الله في عبادته ، فحذف العائد ، ويجوز أن تكون الموصوفة والعائد محذوف أيضاً ، إلا أنَّ حَذْفَ عائد الصِّفَةِ أقل من حَذْفِ عائد الصِّلة ، فالجملة بعدها لا محلًّ لها على القولين الأوَّليْنِ ، ومحلها الجر على الثالث ، ومعنى الكلام أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للرُّبُوبيَّةِ والإلهية ، لا جَرَمَ تبَرَّأ من الشِّرْكِ .

فإن قيل : هَبْ أن الدليل دَلَّ على أن الكواكب لا تصلح للربوبية ، لكن لا يلزم من هذا نَفْيُ الشرك مطلقاً ؟

فالجواب : أن القوم كانوا مُسَاعدين على نَفْي سائر الشُّركاءِ ، وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة ، فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشْياءَ ليست أرْبَاباً ، وثبت بالاتفاق نَفْيُ غيرها ، لا جرم حصل الجَزْمُ بنفي الشركاء .


[14361]:ينظر البيتان في : شرح المفصل 5/101، والإنصاف 2/507، وسمط اللآلي 1/174، والأشباه والنظائر 5/177، 238، وأمالي المرتضى 1/71 ـ 72، ولسان العرب (عمر).
[14362]:البيت للنابغة الذبياني ينظر: ديوانه (49)، مشاهد الإنصاف 1/26، الكشاف 1/26، الدر المصون 3/107.
[14363]:ينظر: الكشاف 2/41.
[14364]:ينظر: البحر المحيط 4/172.