الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَآ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّآ أَفَلَتۡ قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ} (78)

قوله تعالى : { هَذَا رَبِّي } : إنما ذكَّر اسم الإِشارة والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه : إمَّا ذهاباً بها مذهب الكوكب ، وإمَّا ذهابها مذهب الضوء والنور ، وإمَّا بتأويل الطالع أو الشخص أو الشيء ، أو لأنه لمَّا أخبر عنها بمذكر أُعْطِيَتْ حكمه ، تقول : هند ذاك الإِنسان وتِيْكَ الإِنسان ، قال :

تبيت نُعْمَى على الهِجْران غائبةً *** سُقْياً ورُعْياً لذاك الغائبِ الزاري فأشار إلى " نُعمى " وهي مؤنث إشارةَ المذكر لوَصْفِها بوَصْف الذكور أو لأن فيها لغتين التذكير والتأنيث ، وإنْ كان الأكثرُ التأنيثَ فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فأنَّثَ في قوله " بازغة " وذكَّر في قوله " هذا " . وقال الزمخشري : " جَعَل المبتدأَ مثلَ الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومَنْ كانت أمك ، و { لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] وكان اختيارُ هذه الطريقة واجباً لصيانة الربِّ عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم قالوا في صفة الله : عَلاَّم ، ولم يقولوا عَلاَّمة ، وإن كان أبلغَ ، احترازاً من علامة التأنيث " . قلت : هذا قريبٌ مما تقدَّم في قولي : إن المؤنث إذا أُخبر عنه بمذكر عومل معاملة المذكر نحو : " هند ذاك الإِنسان " . وقيل : لأنها بمعنى هذا النيِّر أو المرئيُّ .

قال الشيخ : " ويمكن أن يُقال : إن أكثر لغةِ الأعاجم لا يُفَرِّقون في الضمائر ولا في الإِشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث ، بل المذكر والمؤنث سواء ، فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلامَ إبراهيم بما يُشار به إلى المذكر ، بل لو كان المؤنث بفَرْجٍ لم يكن له عَلامَةٌ تَدُلُّ عليه في كلامهم ، وحين أخبر تعالى عنهم بقوله " بازغة " و " أَفَلتْ " أَتَتْ على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية " انتهى . وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم ، أمَّا شيءٌ يُعَبَّر عنه بلغة العرب ويُعطَى حكمَه في لغة العجم فهو محلُّ نظر .

قوله : " مِمَّا يُشْرِكون " " ما " مصدرية أي : بريء من إشراككم أو موصولةٌ أي : من الذين يشركونه مع الله في عبادته ، فحذف العائد ، ويجوز أن تكونَ الموصوفة ، والعائدُ أيضاً محذوف ، إلا أنَّ حذف عائد الصفة أقلُّ من حذف عائد الصلة ، فالجملةُ بعدها لا محلَّ لها على القولين الأوَّلَيْن ، ومحلُّها الجر على الثالث .