عندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة ، وراح يسأله عن صميم دعواه . ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم :
( قال فرعون : وما رب العالمين ? ) . .
إنه - قبحه الله - يسأل : أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول : إنك من عنده رسول ? وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه ، المتهكم على القول والقائل ، المستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور ، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث !
وقول قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبّ الْعالَمينَ يقول : وأيّ شيء ربّ العالمين ؟ قالَ موسى هو رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ ومالكهنّ وَما بَيْنَهُما يقول : ومالك ما بين السموات والأرض من شيء إنْ كُنْتُمْ مُوقِنينَ يقول : إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه ، فكذلك فأيقنوا أن ربنا هو ربّ السموات والأرض وما بينهما .
ولما لم يجد فرعون في هذا الطريق من تقريره على التنزيه وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله «رسول رب العالمين » فاستفهمه استفهاماً عن مجهور من الأشياء قال مكي كما يستفهم عن الأجناس ، فلذلك استفهم ب { ما } وقد ورد له استفهام ب { من } في موضع آخر{[4]} ، ويشبه أنها مواطن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال فرعون} لموسى: {وما رب العالمين}، منكرا له.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكاية من الله أن فرعون قال لموسى أي شئ رب العالمين الذي تدعوني إلى عبادته، لأن هذا القول من فرعون يدل على أن موسى كان دعاه إلى طاعة الله وعبادته. وقيل: إن فرعون عجب من حوله من جواب موسى، لأنه طلب منه أي أجناس الأجسام هو؟ جهلا منه بما ينبغي أن يسأل عنه..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا رَبُّ العالمين} يريد: أي شيء رب العالمين. وهذا السؤال لا يخلو: إما أن يريد به أي شيء هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة، ليعرّفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [الشورى: 11]. وإما أن يريد به: أي شيء هو على الإطلاق، تفتيشاً عن حقيقته الخاصة ما هي، فأجابه بأنّ الذي إليه سبيل وهو الكافي في معرفته معرفة ثباته بصفاته، استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك. وأمّا التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام: أن يكون سؤاله هذا إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه لادعائه الإلهية، فلما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وطنز به، حيث سماه رسولهم. فلما ثلث بتقرير آخر: احتدّ واحتدم وقال:"لئن اتخذت إلها غيري"، وهذا يدل على صحة هذا الوجه الأخير.
اعلم أن فرعون لم يقل لموسى {وما رب العالمين}، إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، يبين ذلك ما تقدم من قوله: {فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} فلابد عند دخولهما عليه أنهما قالا ذلك، فعند ذلك قال فرعون: {وما رب العالمين} ثم ههنا بحثان:
الأول: أن فرعون يحتمل أن يقال إنه كان عارفا بالله، ولكنه قال ما قال طلبا للملك والرياسة، وقد ذكر الله تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا بالله، وهو قوله: {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض} فإذا قرئ بفتح التاء من {علمت} فالمراد أن فرعون علم ذلك، وذلك يدل على أنه كان عارفا بالله، لكنه كان يستأكل قومه بما يظهره من إلهيته، والقراءة الأخرى برفع التاء من {علمت} فهي تقتضي أن موسى عليه السلام هو الذي عرف ذلك، وأيضا فإن فرعون إن لم يكن عاقلا لم يجز من الله تعالى بعثة الرسول إليه، وإن كان عاقلا فهو يعلم بالضرورة أنه ما كان موجودا ولا حيا ولا عاقلا ثم صار كذلك، وبالضرورة يعلم أن كل ما كان كذلك فلابد له من مؤثر، فلابد وأن يتولد له من هذين العلمين علم ثالث بافتقاره في تركيبه وفي حياته وعقله إلى مؤثر موجد...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون، وتمرده وطغيانه وجحوده، في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟ وذلك أنه كان يقول لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، وكانوا يجحدون الصانع -تعالى- ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون، فلما قال له موسى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزخرف: 46]، قال له: ومَنْ هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف، حتى قال السدي: هذه الآية كقوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49، 50]. ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم؛ أن هذا سؤال عن الماهية، فقد غلط؛ فإنه لم يكن مقرًا بالصانع حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدًا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه، فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كلّم اللئيمُ الذميمُ الكليمَ العظيمَ بما رجا أن يكفه عن مواجهته بما يكره، ويرجعه إلى مداراته. فلم يفعل، وفهم ما في جوابه هذا الأخير من الذم له والتعجيز، وإثبات القدرة التامة والعلم الشامل لله، بما دبر في أمر موسى عليه السلام، وأنه لا ينهض لذلك بجواب ولا يحمد له فيه قول، عدل عنه إلى جوابه عن الرسالة بما يموه به أيضاً على قومه لئلا يرجعوا عنه، فأخبر تعالى عن محاورته في ذلك بقوله على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما قال له جواباً لهذا الكلام، الذي كأنه السهام؟: {قال فرعون} حائداً عن جواب موسى عليه السلام لما فيه من تأنيبه وتعجيزه. منكراً لخالقه على سبيل التجاهل، كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهم أعرف الناس بغالب أفعاله، كما كان فرعون يعرف، لقول موسى عليه السلام {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض} [الإسراء: 102]: {وما رب العالمين} أي الذي زعمت أنكما رسوله. فسأل ب "ما "عن حقيقته وإنما أراد في الحقيقة إنكاره.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما لم يَرُجْ تهويله على موسى عليه السلام وعلم أنه غير مقلع عن دعوته تنفيذاً لما أمره الله ثنّى عنان جداله إلى تلك الدعوة فاستفهم عن حقيقة ربّ العالمين الذي ذكر موسى وهارون أنهما مُرسَلان منه إذ قالا: {إنا رسولُ ربّ العالمين} [الشعراء: 16] وإظهار اسم فرعون مع أن طريقة حكاية المقاولات والمحاورة يكتفى فيها بضمير القائلين بطريقة قال قال، أو قال فقال، فعدل عن تلك الطريقة إلى إظهار اسمه لإيضاح صاحب هذه المقالة لبعد ما بين قوله هذا وقوله الآخر. والواو عاطفة هذا الاستفهام على الاستفهام الأول الذي وقع كلام موسى فاصلاً بينه وبين ما عطف عليه. وحرف {ما} الغالب فيه أن يكون للسؤال عن حقيقة الاسم بعده التي تميزه عن غيره، ولذلك يسأل بها عن تعيين القبيلة، ففي حديث الوفود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: « مَا أنتم»، ففرعون سأل موسى عليه السلام تبيين حقيقة هذا الذي وصفه بأنه {رب العالمين} [الشعراء: 16]، فقد كانت عقائد القبط تثبت آلهة متفرقة قد اقتسمت التصرف في عناصر هذا العالم وأجناس الموجودات، وتلك العناصر هي العالمون ولا يدينون بإله واحد، فإنّ تعدد الآلهة المتصرفة ينافي وحدانية التصرف، فلما سمع فرعون من كلام موسى إثبات ربّ العالمين قَرع سمعه بما لم يألفه من قبل لاقتضائه إثبات إله واحد وانتفاء الإلهية عن الآلهة المعروفة عندهم، على أنهم كانوا يزعمون أن فرعون هو المجتبَى من الآلهة ليكون مَلِكَ مصر. فهو مظهر الآلهة الأخرى في تدبير المملكة {قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} [الزخرف: 51]. وبهذا الانتساب إلى الآلهة وتمثيله إرادتهم في الأرض كان فرعون يُدعَى إلهاً. وقد كانت الأمم يومئذ في غفلة عما عدا أنفسها فكانوا لا يفكرون في مختلف أحوال الأمم وعوائد البشر. ولا تشعر كل أمة إلا بنفسها وخصائصها من آلهتها وملوكها فكان المَلِك لا يُشيع في أمته غيرَ قوته وانتصاره على الثائرين،...